إطلاق اللفظ إذ كان الورع اجتناب المحرمات وكل ما فيه شبهة من جانب المحرم فيجتنب لذلك الشبه وهو المعبر عنه بالشبهات أي الشئ الذي له شبه بما جاء النص الصريح بتحريمه من كتاب أو سنة أو إجماع بالحال الذي يوجب له هذا الاسم مثل أكل لحم الخنزير لمن ليس له حال الاضطرار فهو عليه حرام فلهذا قلنا بالحال الذي يوجب له هذا الاسم كما أن المضطر ليس بمخاطب بالتحريم فأكل لحم الخنزير في حق من حاله الاضطرار هو له حلال بلا خلاف ولما كان التحريم معناه المنع من الالتباس به ورأوا أن لذلك أحوالا وأنه ما ثم في الوضع شئ محرم لعينه لهذا قيده الشارع بالأحوال وقد انسحب عليه التحريم للحال فما هو محرم لعينه أولى بالاجتناب فلا بد من اجتنابه باطنا علما وقد يحل هذا المحرم لعينه في ظاهر الحال ما يلزمه وهذا هو التحريم الذي لا يحل أبدا من حيث معناه ولا يصح أن تجئ آية شرعية تحله وهو الاتصاف بأوصاف الحق تعالى التي بها يكون إلها فواجب شرعا وعقلا اجتناب هذه الأسماء الإلهية معنى وإن أطلقت لفظا فينبغي أن لا تطلق لفظا على أحد إلا تلاوة فيكون الذي يطلقها تاليا حاكيا كما قال تعالى لقد جاءكم رسول من أنفسكم عزيز عليه ما عنتم حريص عليكم بالمؤمنين رؤوف رحيم فسماه عزيزا رؤفا رحيما فنسميه بتسمية الله إياه ونعتقد أنه صلى الله عليه وسلم في نفسه مع ربه عبد ذليل خاشع أواه منيب فاطلاق الألفاظ التي تطلق على الحق من الوجه الصحيح الذي يليق بالجناب الإلهي لا ينبغي أن تطلق على أحد من خلق الله إلا حيث أطلقها الحق لا غير وإن أباح ذلك فالورع ما هو مع المباح ولا سيما في هذه المسألة خاصة فلا يطلقها مع كون ذلك قد أبيح له فإذا أطلقها على من أطلقها عليه الحق أو الرسول صلى الله عليه وسلم فيكون هذا المطلق تاليا أو مترجما ناقلا عن رسول الله صلى الله عليه وسلم في ذلك الإطلاق ثم من الورع عند هؤلاء الرجال أن ينزلوا إلى ما اختصت به الأنبياء والرسل من الإطلاق فيتورعوا أن يطلقوا عليهم أو على أحد ممن ليس بنبي ولا رسول اللفظ الذي اختصوا به فيطلقون على الرسل الذين ليسوا برسل الله لفظ الورثة والمترجمين فيقولون وصل من السلطان الفلاني إلى السلطان الفلاني ترجمان يقول كذا وكذا فلم يطلقوا على المرسل ولا على المرسل إليه اسم الملك ورعا وأدبا مع الله وأطلقوا عليه اسم السلطان فإن الملك من أسماء الله فاجتنبوا هذا اللفظ أدبا وحرمة وورعا وقالوا السلطان إذ كان هذا اللفظ لم يرد في أسماء الله وأطلقوا على الرسول الذي جاء من عنده اسم الترجمان ولم يطلقوا عليه اسم الرسول لأنه قد أطلق على رسول الله صلى الله عليه وسلم فجعلوه من خصائص النبوة والرسالة الإلهية أدبا مع رسل الله عليهم السلام وإن كان هذا اللفظ قد أبيح لهم ولم ينهوا عنه ولكن لم يوجب عليهم فكان لزوم الأدب أولى مع من عرفنا الله أنه أعظم منا منزلة عنده وهذا لا يعرفه إلا الأدباء الورعون ثم إن لهؤلاء مرتبة أخرى في الورع وهي أنهم رضي الله عنهم يجتنبون كل أمر تقع فيه المزاحمة بين الأكوان ويطلبون طريقا لا يشاركهم فيها من ليس من جنسهم ولا من مقامهم فلا يزاحمون أحدا في شئ مما يتحققون به في نفوسهم ويتصفون به ويحبون من الله أن يدعوا به في الدنيا والآخرة وهو ما يكونون عليه من الأخلاق الإلهية فيكونون مع تحققهم بمعانيها وظهور أحكامها على ظواهرهم من الرحمة بعباد الله والتلطف بهم والإحسان إليهم والتوكل على الله والقيام بحدود الله ويظهرون في العالم أن جميع ما يرى عليهم إن ذلك فعل الله لا فعلهم وبيد الله لا بيدهم وأن المثنى عليه بذلك الفعل إنما ينبغي أن يتعلق ذلك الثناء بفاعله وفاعله هو الله جل جلاله لا نحن فيتبرءون من أفعالهم الحسنة غاية التبري ومن الأوصاف المستحسنة كذلك وكل وصف مذموم شرعا وعرفا يضيفونه إلى أنفسهم أدبا مع الله تعالى وورعا شافيا كما قال الخضر في العيب فأردت وفي الخير فأراد ربك وكما قال الخليل عليه السلام وإذا مرضت ولم يقل أمرضني وكما قال تعالى في معرض التعليم لنا وما أصابك من سيئة فمن نفسك هذا وإن كان الحق في هذا الخبر يحكى قولهم ولكن فيه تنبيه في التعليم وكما قال عليه السلام في دعائه وهو مما يؤيد ما ذهبنا إليه في التنبيه في هذه الآية فقال والخير كله بيديك فأكد بكل وهي كلمة تقتضي الإحاطة في اللسان وقال والشر ليس إليك وإن كان لم يؤكده واكتفى بالألف واللام ونفى أضافه الشر أدبا مع الله وحقيقة وهذه المسألة من أغمض المسائل الإلهية عند أهل الله خاصة وأما أهل النظر فقد اعتمدت كل طائفة منهم على ما اقتضاه دليلها في زعمها وهؤلاء الرجال الغالب عليهم
(٢٤٥)