أنه يقد التغليظ وإن الكفارة عقوبة فإن كان صاحب الواقعة غنيا أو ملكا خوطب بالصيام فإنه أشق عليه وأردع فإن المقصود بالحدود والعقوبات إنما هو الزجر وإن كان متوسط الحال في المال ويتضرر بالإخراج أكثر مما يشق عليه الصوم أمر بالعتق أو الإطعام وإن كان الصوم عليه أشق أمر بالصوم ومن رأى أن الذي ينبغي أن يقدم في ذلك ما يرفع الحرج فإنه تعالى يقول وما جعل عليكم في الدين من حرج فيكلف من الكفارة ما هو أهون عليه وبه أقول في الفتيا وإن لم أعمل به في حق نفسي لو وقع مني إلا أن لا أستطيع فإن الله لا يكلف نفسا إلا وسعها وما آتاها سيجعل الله بعد عسر يسرا وكذلك فعل فإنه قال إن مع العسر يسرا ثم إن مع العسر يسرا فأتى بعسر واحد ويسرين معه فلا يكون الحق يراعي اليسر في الدين ورفع الحرج ويفتي المفتي بخلاف ذلك فإن كون الحدود وضعت للزجر ما فيه نص من الله ولا رسوله وإنما يقتضيه النظر الفكري فقد يصيب في ذلك وقد يخطئ ولا سيما وقد رأينا خفيف الحد في أشد الجنايات ضررا في العالم فلو أريد الزجر لكانت العقوبة أشد فيها وبعض الكبائر ما شرع فيها حدا ولا سيما والشرع في بعض الحدود في الكبائر التي لا تقام إلا بطلب المخلوق وإن أسقط ذلك سقطت والضرر بإسقاط الحد في مثله أظهر كولي المقتول إذا عفا وليس للإمام أن يقتله وأمثال هذا من الخفة والإسقاط فيضعف قول من يقول وضعت الحدود للزجر ولو شرعنا نتكلم في سبب وضع الحدود وإسقاطها في أماكن وتخفيفها في أماكن وتشديدها في أماكن أظهرنا في ذلك أسرارا عظيمة لأنها تختلف باختلاف الأحوال التي شرعت فيها والكلام فيها يطول وفيها إشكالات مثل السارق والقاتل وإتلاف النفس أشد من إتلاف المال وإن عفا ولي المقتول لا يقتل قاتله وإن عفا رب المال المسروق أو وجد عند السارق عين المال فرد على ربه ومع هذا فلا بد أن تقطع يده على كل حال وليس للحاكم أن يترك ذلك ومن هنا تعرف أن حق الله في الأشياء أعظم من حق المخلوق فيها بخلاف ما تعتقده الفقهاء قال صلى الله عليه وسلم حق الله أحق أن يقضى (الاعتبار) الترتيب في الكفارة أولى من التخيير فإن الحكمة تقتضي الترتيب والله حكيم والتخيير في بعض الأشياء أولى من الترتيب لما اقتضته الحكمة والعبد في الترتيب عبد اضطرار كعبودة الفرائض والعبد في التخيير عبد اختيار كعبودة النوافل وفيها رائحة من عبودية الاضطرار وبين عبادة النوافل وعبادة الفرائض في التقريب الإلهي بون بعيد في علو المرتبة فإن الله جعل القرب في الفرائض أعظم من القرب في النوافل وإن ذلك أحب إليه ولهذا جعل في النوافل فرائض وأمرنا أن لا نبطل أعمالنا وإن كان العمل نافلة لمراعاة عبودية الاضطرار على عبودية الاختيار لأن ظهور سلطان الربوبية فيها أجلي ودلالتها عليها أعظم (وصل في فصل الكفارة على المرأة إذا طاوعت زوجها فيما أراد منها من الجماع) فمن قائل عليها الكفارة ومن قائل لا كفارة عليها وبه أقول فإن النبي صلى الله عليه وسلم في حديث الأعرابي ما ذكر المرأة ولا تعرض إليها ولا سأل عن ذلك ولا ينبغي لنا أن نشرع ما لم يأذن به الله (الاعتبار) النفس قابلة للفجور والتقوى بذاتها فهي بحكم غيرها بالذات فلا نقدر تنفصل عن التحكم فيها فلا عقوبة عليها والهوى والعقل هما المتحكمان فيها فالعقل يدعوها إلى النجاة والهوى يدعوها إلى النار فمن رأى أنه لا حكم لها فيما دعيت إليه قال لا كفارة عليها ومن رأى أن التخيير لها في القبول وإن حكم كل واحد منهما ما ظهر له حكم إلا بقبولها إذ كان لها المنع مما دعيت إليه والقبول فلما رجحت أثيبت إن كان خيرا فخير وإن كان شرا فشر فقيل عليها الكفارة (وصل في فصل تكرر الكفارة لتكرر الإفطار) فقيل إنه من وطئ ثم كفر ثم وطئ في يوم واحد إن عليه كفارة أخرى وقيل من وطئ مرارا في يوم واحد فليس عليه إلا كفارة واحدة واختلفوا أيضا فيمن وطئ في يوم من رمضان ولم يكفر حتى وطئ في يوم ثان فقال بعضهم عليه لكل يوم كفارة وقال بعضهم عليه كفارة واحدة ما لم يكفر عن الجماع الأول والذي أقول به إن عليه كفارة واحدة لأنها ما شرعت إلا لمراعاة رمضان في حال الصوم لا لمراعاة الصوم لأنه لو أفطر في صوم القضاء لم يكفر ولو كانت هذه الكفارة مثل كفارة الظهار لم يوجب عليه كفارة أخرى إذا كفر عن الجماع الأول فلما أوجبها بعد الوقوع لهذا جعلناها تلزمه
(٦٢٠)