تركيب البسائط مع العقد فانظر حكمة الشارع في أمره بصوم يوم قبله ويوم بعده متصلا به حتى لا تقول اليهود إن صومه مقصود لنا فإنه يكره في الفرائض مثل هذا إلا أن يكون الإنسان على عمل يعمله فلا يبالي إلا إن وقع التحجير وقد نهينا أن نقدم رمضان بيوم أو يومين قصدا إلا أن يكون في صيام نصومه ثم من الحكمة أن حرم علينا صيام يوم الفطر حتى لا نصل صيام رمضان بصوم آخر تمييزا لحق الفرض من النفل خلاف اعتبار يوم الجمعة وسيأتي الكلام في صومه إن شاء الله تعالى في هذا الباب (وصل في فضل صوم يوم عرفة) ورد في الحديث الثابت عن رسول الله صلى الله عليه وسلم في صيام يوم عرفة أحتسب على الله أن يكفر السنة التي قبله والسنة التي بعده خرجه مسلم من حديث أبي قتادة فمن صام هذا اليوم فإنه أخذ بحظ وافر مما أعطى الله نبيه صلى الله عليه وسلم في قوله ليغفر لك الله ما تقدم من ذنبك وما تأخر فلم يزل رسول الله صلى الله عليه وسلم عمره كله في الحكم حكم الصائم يوم عرفة وخصه باسم عرفة لشرف لفظة المعرفة التي هي العلم لأن المعرفة في اللسان الذي بعث به نبينا صلى الله عليه وسلم تتعدى إلى مفعول واحد فلها الأحدية فهي اسم شريف سمي الله به العلم فكان المعرفة علم بالأحدية والعلم قد يكون تعلقه بالأحدية وغيرها بخلاف لفظ المعرفة فقد تميز اللفظان بما وضعا له وقد ينوب العلم مناب المعرفة في اللسان بالعمل كذا ذكره النحاة واستشهدوا على ذلك بقوله تعالى لا تعلمونهم الله يعلمهم تأويله لا تعرفونهم فعدوا العلم إلى مفعول واحد للنيابة والمعرفة ما لها حكم إلا في الأحدية وذهلوا عما نعلمه نحن فإن العلم أيضا إنما طلب الأحدية ولهذا صح للمعرفة أن تكون من أسمائه لأن العمل هو الأصل فإنه صفة الحق ليست المعرفة صفته ولا له منها اسم عندنا في الشرع وإن جمعها والعلم حد واحد لكن المعرفة من أسماء العلم كما قلنا والعارف من أسماء العالم فينا بالأحدية وأما قولنا إن العلم إنما هو موضوع للأحدية مثل المعرفة ولهذا سمينا العلم معرفة لأنا إذا قلنا علمت زيدا قائما فلم يكن مطلوبنا زيدا لنفسه ولا مطلوبنا القيام لعينه وإنما مطلوبنا نسبة قيام زيد وهو مطلوب واحد فإنها نسبة واحدة معينة وعلمنا زيدا وحده بالمعرفة والقيام وحده بالمعرفة فنقول عرفت زيدا وعرفت القيام وهذا القدر غاب عن النحاة وتخيلوا أن تعلق العلم بنسبة القيام إلى زيد هو عين تعلقه بزيد والقيام وهذا غلط فإنه لو لم يكن زيد معلوما له والقيام أيضا معلوما له قبل ذلك لما صح أن ينسب ما لا يعلمه إلى ما لا يعلمه لأنه لا يدري هل تصح تلك النسبة أم لا وهذا النوع من العلم يسمى عند أصحاب ميزان المعاني التصور وهو معرفة المفردات والتصديق وهو معرفة المركبات وهو نسبة مفرد إلى مفرد بطريق الإخبار بالواحد عن الآخر وهو عند النحويين المبتدأ والخبر وعند غيرهم الموضوع والمحمول ثم نرجع إلى بابنا فنقول فعلمنا شرف يوم عرفة من حيث اسمه لما وضع له من تعلقه بالأحدية إنما الله إله واحد والأحدية أشرف صفة الواحد من جميع الصفات وهي سارية في كل موجود ولولا أنها سارية في كل موجود ما صح أن نعرف أحدية الحق سبحانه فما عرفه أحد إلا من نفسه ولا كان على أحديته دليل سوى أحديته من عرف نفسه عرف ربه هكذا قال صلى الله عليه وسلم وقال أبو العتاهية وفي كل شئ له آية * تدل على أنه واحد والآية أحدية كل شئ وهي التي يمتاز بها عن غيره من أمثاله فالأحدية تسري في كل شئ من قديم وحادث ومعدوم وموجود ولا يشعر بسريانها كل أحد لشدة وضوحها وبيانها كالحياة عند أرباب الكشف والايمان فإنها سارية في كل شئ سواء ظهرت حياته كالحيوان أو بطنت حياته كالنبات والجماد فالله حي بغير منازع وما من شئ مما سوى الله إلا وهو يسبح الله بحمده ولا يسبحه إلا من يعلمه ومن شرط العالم أن يكون حيا فلا بد أن يكون كل شئ حيا ولما كانت الأحدية للمعرفة والأحدية لله تعالى في ذاته رجحنا صوم يوم عرفة على فطره في غير عرفة فإن كنا في عرفة علمنا إن الصوم لله لا لنا فرجحنا فطره على صومه لشهود عرفة فافهم فالصوم لله حقيقة والأحدية له حقيقة فوقعت المناسبة بين الصوم ويوم عرفة فإن كل واحد لا مثل له فإن صومه يفعل فيما بعده وليس ذلك لغيره في حق كل أحد ويفعل فيما قبله لأنه زماني فيتقيد بالقبلية وبالبعدية والمقصود إن فعله عام كصفة الحق في إيجاد الممكنات عامة لا تختص بممكن دون ممكن وإن كان الأمر
(٦٣٦)