فإنه ما يدعو إلا من يصح منه الأكل والشرب ولولا ما هذا شهوده ما دعاه فليس لهذا السامع أن يأكل وليتم صومه ولا بد فإن حق الله أحق بالقضاء وقد تعين عليه حق الله بما أدخل نفسه من هذا التلبس بالصوم فإن قالت له نفسه الآكلة ما دعاك إنما كانت الدعوة لي لا لك فإجابتي لدعوته هو عين أكلي فإنه يقول لها إنما كان لك ذلك لو لم تدخل نفسك ابتداء مع الحق في هذه العبادة من غير إن يلزمك بها فلما تلبست بها تعين عليك إتمامها فإن ذلك من حقك الذي أوجبته على نفسك وحقك عليك أولى من حق غيرك عليك وقد عرفك الحق بذلك على لسان نبيك فقال إن أفضل الصدقات ما تصدقت به على نفسك وقال في القاتل نفسه حرمت عليه الجنة وقال في القاتل غيره إذا مات ولم يقتص منه إن شاء غفر له وإن شاء عاقبه فإن أفطرت فرطت في حق نفسك وأديت حق غيرك وفي حق نفسك حق الله فتمنعها من الفطر وتشغلها بالصلاة عوضا من ذلك يريد أنه يكون مناجيا لله تعالى الذي هو أشرف داع وأكمله وقد دعاه إلى الصلاة في هذه الحال فإنه قال له على لسان نبيه صلى الله عليه وسلم وإن كان صائما فليصل فأمره بالصلاة في هذه الحال (وصل في فصل صيام الدهر) لا يصح إلا للدهر لا لغير الدهر فإن صيام الدهر في حق الإنسان إنما هو أن يصوم السنة بكمالها ولا يصح له ذلك من أجل يوم الفطر والأضحى فإن الفطر فيهما واجب بالاتفاق فلهذا ما يصح فإن الدهر اسم الله والصوم له فما كان لله فما هو لك وإنما يكون لك ما لم يحجره عليك فإذا حجره وهو بالأصالة ليس لك فقد أخبرك أنه لا يحصل فإن فعلته عملت في غير معمل وطمعت في غير مطمع (وصل في فصل صيام داود ومريم وعيسى عليهم السلام) أفضل الصيام وأعدله صوم يوم في حقك وصوم يوم في حق ربك وبينهما فطر يوم فهو أعظم مجاهدة على النفس وأعدل في الحكم ويحصل له في مثل هذا الصوم حال الصلاة كحالة الضوء من نور الشمس فإن الصلاة نور والصبر ضياء وهو الصوم والصلاة عبادة مقسومة بين رب وعبد وكذلك صوم داود عليه السلام صوم يوم وفطر يوم فتجمع ما بين ما هو لك وما هو لربك ولما رأى بعضهم أن حق الله أحق لم ير التساوي بين ما هو الله وما هو للعبد فصام يومين وأفطر يوما وهذا كان صوم مريم عليها السلام فإنها رأت أن للرجال عليها درجة فقالت عسى اجعل هذا اليوم الثاني في الصوم في مقابلة تلك الدرجة وكذلك كان فإن النبي صلى الله عليه وسلم شهد لها بالكمال كما شهد به للرجال ولما رأت أن شهادة المرأتين تعدل شهادة الرجل الواحد فقالت صوم اليومين مني بمنزلة اليوم الواحد من الرجل فنالت مقام الرجال بذلك فساوت داود في الفضيلة في الصوم فهكذا من غلبت عليه نفسه فقد غلبت عليه ألوهيته فينبغي إن يعاملها بمثل ما عاملت به مريم نفسها في هذه الصورة حتى تلحق بعقلها وهذه إشارة حسنة لمن فهمها فإنه إذا كان الكمال لها لحوقها بالرجال فالأكمل لها لحوقها بربها كعيسى بن مريم ولدها فإنه كان يصوم الدهر ولا يفطر ويقوم الليل فلا ينام وكان ظاهرا في العالم باسم الدهر في نهاره وباسم القيوم الذي لا تأخذه سنة ولا نوم في ليله فادعى فيه الألوهية فقيل إن الله هو المسيح ابن مريم وما قيل ذلك في نبي قبله فإنه غاية ما قيل في العزير إنه ابن الله ما قيل هو الله فانظر ما أثرت هذه الصفة من خلف حجاب الغيب في قلوب المحجوبين من أهل الكشف حتى قالوا إن الله هو المسيح بن مريم فنسبهم إلى الكفر في ذلك إقامة عذر لهم فإنهم ما أشركوا بل قالوا هو الله والمشرك من يجعل مع الله إلها آخر فهذا كافر لا مشرك فقال تعالى لقد كفر الذين قالوا إن الله هو المسيح بن مريم فوصفهم بالستر واتخذوا ناسوت عيسى مجلي ونبه عيسى على هذا المقام فيما أخبر الله تعالى تثبيتا لهم فيما قالوا فقال المسيح يا بني إسرائيل اعبدوا الله ربي وربكم فقالوا كذلك نفعل فعبدوا الله فيه ثم قال لهم إنه من يشرك بالله فقد حرم الله عليه الجنة أي حرم الله عليه كنفه الذي يستره والله قد وصفهم بالستر حيث وصفهم بالكفر فهي آية يعطي ظاهرها نفس ما يعطي ما هو عليه الأمر في ذلك والتأويل فيها يلحق بالذم فإن تفطنت لما ذكرناه وقعت في بحر عظيم لا ينجو من غرق فيه أبدا فإنه بحر الأبد فما أحكم كلام الله لمن نظر فيه واستبصر وكان من الله فيه على بصيرة
(٦٥٢)