البعث والمصلي يناجي ربه فإذا وقف المصلي في المناجاة وليس بينه وبين الأرض حائل وكانت الأرض مشهودة لبصره ذكرته بنشأته وبما خلق منه وبإهانته وذلته فإن الأرض قد جعلها الله ذلولا مبالغة في الذلة بهذه البنية قال الشاعر ضروب بنصل السيف سوق سمانها * إذا عدموا زادا فإنك عاقر فجاء ببنية فعول للمبالغة في الكرم ولا أذل ممن يطئوه الأذلاء ونحن نطأها وجميع الخلائق ونحن عبيد أي أذلاء فربما شغل المصلي النظر في نفسه وما خلق منه عن مناجاة ربه بما يقرأ من كلامه فيغيب عما يقول للحق وما يقول له الحق وهو سوء أدب من التالي فكان الحائل أولى لما نهي المصلي أن يستقبل رجلا مثله في قبلته أو يصمد إلى سترته صمدا وليجعلها على حاجبه الأيمن أو الأيسر هذا كله حتى لا يقوم له مقام الوثن غيرة إلهية فإنهم كانوا يصورونه على صورة الإنسان فأمر يستره الميت لأن الميت بين يدي المصلي والمصلي يناجي الحق في قبلته شفيعا في هذا الميت وسيأتي اعتباره في الصلاة على الميت إن شاء الله تعالى (وصل في فضل المشي مع الجنازة) المشي مع الجنازة كالسعي إلى الصلاة فقال بعضهم من السنة المشي أمامها وقال آخرون المشي خلفها أفضل والذي أذهب إليه أن يمشي راجلا خلفها قبل الصلاة عليها فيجعلها أمامه كما يجعلها في الصلاة وبعد الصلاة يمشي أمامها خدمة لها بين يديها إلى منزلها وهو القبر ظنا بالله جميلا إن الله قبل الشفاعة فيها عند الصلاة عليها وأن القبر لها روضة من رياض الجنة فإن الله قد ندب إلى حسن ظن عبده به فقال أنا عند ظن عبدي بي فليظن بي خيرا وروى أن الله سئل من أحب إليك عيسى أم يحيى عليهما السلام فقال الله تعالى للسائل أحسنهما ظنا بي يعني عيسى فإن الخوف كان الغالب على يحيى والأولى أن لا يركب أدبا مع الملائكة لا غير فإن الملائكة تمشي مع الجنازة ما لم يصحبها صراخ فإن صحبها صراخ تركتها الملائكة فعند ذلك أنت مخير بين الركوب والمشي فإن الميت على نعشه كالشخص في المحفة محمول قال صاحبنا أبو المتوكل وقد رأينا نعشا يحمل وعليه الميت فأشار إليه وقال ما زال يحملنا وتحمله الورى * عجبا له من حامل محمولا وصل الاعتبار فيه المشي أمام الجنازة لأن الماشي شفيع لها عند الله فيتقدم ليخلو بالله في شأنها فإن الشفيع لا يدري هل تقبل شفاعته فيها أم لا حتى إذا وصلت إلى قبرها وصلت مغفورا لها بكرم الله في قبول سؤال الشافع وإن كانت من المغفورين لها قبل ذلك كان الماشي أمامها من المعرفين بقدومها لمن تقدم عليه في منزلها الذي هو قبرها فهو كالحاجب بين يديها تعظيما لها يشهد ذلك كله أهل الكشف وأما الماشي خلفها فإنه يراعي تقديمها بين يديه كما يجعلها بين يديه في الصلاة عليها ليعتبر بالنظر إليها فيها فإن الموت فزع وإن الملك معها وإن النبي صلى الله عليه وسلم قام عند ما رأى جنازة يهودي فقيل له إنها جنازة يهودي فقال أليس معها الملك وقال مرة أخرى إن الموت فزع وقال مرة أخرى أليست نفسا ولكل قول وجه أرجى الأقوال أليست نفسا لمن عقل فكان قيامه مع الملك وفي هذا الحديث قيام المفضول للفاضل عندنا وعند من يرى أن الملائكة أفضل من البشر على الإطلاق وهكذا قال لي رسول الله صلى الله عليه وسلم في مبشرة أريتها وأما قوله صلى الله عليه وسلم في هذا أليست نفسا في حق يهودي فإنه أرجى ما يتمسك به أهل الله إذا لم يكونوا من أهل الكشف وكانت بصائرهم منورة بالإيمان في شرف النفس الناطقة وإن صاحبها إن شقي بدخول النار فهو كمن يشقى هنا بأمراض النفس من هلاك ما له وخراب منزله وفقد ما يعز عليه ألما روحانيا لا ألما حسيا فإن ذلك حظ الروح الحيواني وهذا كله غير مؤثر في شرفها فإنها منفوخة من الروح المضاف إلى الله بطريق التشريف فالأصل شريف ولما كانت من العالم الأشرف قام لها رسول الله صلى الله عليه وسلم بكونها نفسا فقيامه لعينها وهذا إعلام بتساوي النفوس في أصلها وروى القشيري في رسالته عن بعض الصالحين أنه قال من رأى نفسه خيرا من نفس فرعون فما عرف فذمه وأخبر أنه ليس له أن يرى ذلك وهذه مسألة من أعظم المسائل تؤذن بشمول الرحمة وعمومها لكل نفس وإن عمرت النفوس الدارين ولا بد من عمارة الدارين كما ورد وإن الله سيعامل النفوس بما يقتضيه
(٥٢٧)