قوله كمشكاة إلى آخر الآية أعلاما أنه نور كل نور بل هو كل نور وشرع لنا طلب هذه الصفة فكان صلى الله عليه وسلم يقول واجعلني نورا وكذلك كان صلى الله عليه وسلم (وصل في فصل التماسها مخافة الفوت) خرج الترمذي عن أبي ذر قال صمنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم فلم يقم بنا حتى بقي سبع من الشهر فقام بنا حتى ذهب ثلث الليل ثم لم يقم بنا السادسة وقام بنا في الخامسة حتى ذهب شطر الليل فقلنا له يا رسول الله لو نفلتنا بقية ليلتنا هذه فقال إنه من قام مع الإمام حتى ينصرف كتب له قيام ليلة ثم لم يصل بنا حتى بقي ثلاث من الشهر وصلى بنا في الثالثة ودعا أهله ونساءه وقام بنا حتى تخوفنا أن يفوت الفلاح قيل وما الفلاح قال السحور وقال هذا حديث حسن صحيح انظر ما أعجب قول هذا الصاحب حيث سمي السحور فلاحا والفلاح البقاء ينبه أن الإنسان إنما هو في الصوم بالعرض فإنه لا بقاء له فإن الصوم لله ألا تراه يزول حكمه عن الصائمين بزوال الدنيا فهو في الآخرة يأكل ويشرب بما أسلف في أيام الصوم وهي الأيام الخالية يعني الماضية قال تعالى كلوا واشربوا هنيئا بما أسلفتم في الأيام الخالية أيام الصوم في الدنيا والآخرة دار بقاء وأكلها دائم وظلها والسحور أكلة غذاء فنبه إن الإنسان في بقائه آكل لا صائم فهو متغذ بالذات صائم بالعرض فالغذاء باق فسماه فلاحا أي بقاء وهو من السحر والسحر له وجهان كما ذكرنا وجد إلى الليل ووجه إلى النهار وهو الوقت الذي بين الفجرين كذلك الإنسان له البقاء الذي هو الفلاح وهو السحور في مقامه الذي هو فيه فله وجه إلى الواجب الوجود لنفسه ووجه إلى العدم لا ينفك عن ذلك في أي حالة كان من وجود أو عدم ولذلك سمي ممكنا ودخل في جملة الممكنات فهذه الصفة له باقية وإن ظهر بنعت إلهي في وقت فليس له فيه بقاء وإنما بقاؤه فيما قلناه ولهذا قال الصاحب لما اتصف في ليلته بالقيوم قال تخوفنا أن يفوتنا الفلاح وهو أن ينقضي زمان الليل وما عرفنا نفوسنا إذ في معرفتنا بها معرفة ربنا لكنهم ما فاتهم الفلاح بحمد الله بل أشهدهم الله نفوسهم بالغذاء ليشهدوا أن القيومية له ذاتية وقيومية العبد إنما هي بإمداد ما يتغذى به ولهذا قال صلى الله عليه وسلم حسب ابن آدم لقيمات يقمن صلبه فجعل القيومية للغذاء وإن كان هو القائم بها فكأنه يقول وإن تلبسنا بالتماس هذه الليلة من الاسم الوتر تعالى فلم يغننا ذلك الالتماس عن حظوظ نفوسنا التي بها بقاؤنا وهو التغذي فإن التماسنا لها إنما هو لما ينالنا من خيرها في دار البقاء فما التمسناها بالعبادة إلا لحظ نفسي نبقى به في الدار الآخرة والسحور رب الوقت في الحال وهو سبب في بقاء الحياة الدنيا للعمل الصالح فتخوفنا أن يفوتنا حكمه إذ كان ذلك الحكم عين طلبنا بالالتماس وإن اختلف الدار ثم جعلها صلى الله عليه وسلم في الوتر من الليالي دون الشفع لأنه انفرد بها الليل دون النهار فإنه وتر من اليوم واليوم شفع فإن اليوم عبارة عن ليل ونهار ولكن في تلك السنة لو ورد النص فإنها قد تكون في الأشفاع إلا في تلك السنة لما ورد في الخبر من التماسها في الأوتار من العشر الآخر ولمعنى آخر أيضا وهو أن الطلب إذا كان في ليالي وتر الشهر كان الوتر حافظا لهذا العبد لما تعطيه هذه الليلة من البركات والخير وهو في وتر من الزمان المذكر له وترية الحق فيضيف ذلك الخير إلى الله لا إلى الليلة وإن كانت سببا في حصوله ولكن عين شهود الوتر يحفظه من نسبة الخير لغير الله مع ثبوت السبب عنده فلو كانت في ليلة شفع وهي سبب لم يكن لهذا العبد من يذكره تذكير حال في وقت التماسه إياها أو في شهوده إياها إذ أعثر عليها فكان محصلا للخير من يد غير أهله فيكون صاحب جهل وحجاب في أخذ ذلك الخير فما كان يقاوم ما حصل له فيها من الخير ما حصل له من الحرمان والجهل لحجابه عن معطي الخير فلهذا أيضا جعلت في أوتار الليالي فافهم وجعلت في العشر الآخر لأنها نور والنور شهادة وظهور فهو بمنزلة النهار إذ سمي النهار لاتساع النور فيه والنهار متأخر عن الليل لأنه مسلوخ منه والعشر الآخر متأخر عن العشر الأوسط والأول فكان ظهورها والتماسها في المناسب الأبعد وما رأيت أحدا رآها في العشر الأول ولا نقل إلينا وإنما تقع في العشر الوسط والآخر خرج مسلم عن أبي سعيد قال اعتكف رسول الله صلى الله عليه وسلم العشر الأوسط من رمضان يلتمس ليلة القدر وكذلك التجلي الإلهي ما ورد قط في خبر صحيح نبوي ولا سقيم إن الله يتجلى في الثلث الأول من الليل وقد ورد أنه يتجلى في الثلث الأوسط والآخر من الليل وليلة القدر إنما هي حكم تجل
(٦٦٠)