النفس فقد تجد الحق هناك وجود تنزيه ما هو وجودها له مثل وجودها له في عالم المساحة والمقدار فيشاهدون مقاما أنزه ومنزلا أقدس وبينية لا يحدها التقدير ولا يأخذها التصوير فبينيتها بينية تمييز علوم ومراتب فهوم ومن الهمم من يلقاه في العقل الأول ومن الهمم ما تلقاه في المقربين من الأرواح المهيمة ومن الهمم ما تلقاه في العماء ومن الهمم من تلقاه في الأرض المخلوقة من بقية طينة آدم عليه السلام فإذا لقيته هذه الهمم في هذه المراتب أعطاها على قدر تعطشها من المقام الذي بعثها على الترقي إلى هذه المراتب وينزلون معه إلى السماء الدنيا وعلى الحقيقة هو ينزلهم إلى السماء الدنيا وينزل معهم فيستفيدون من العلوم التي يهبها الحق لتلك الهمم التي ما تعدت العرش هكذا كل ليلة ثم تنزل هذه الهمم وقد عرفت ما أكرمها به الحق فاجتمعت بالهمم التي ما برحت من مكانها فوجدتها على طبقات فمنهم من وجد عندهم من العلوم التي لم تتقيد بترق وكان الحق أقرب إليها من حبل الوريد حين كان مع أولئك في العماء وفي السماء الدنيا وما بينهما قال تعالى وهو معكم أينما كنتم فهو مع كل همة حيث كانت ويجدون همما أرضية قد تقدست عن الأينية وعن مراتب العقول فلم تتقيد بحضرة فتنال من العلوم التي تليق بهذه الصفة التي وهبهم الحق منها ما حصلوا عليه من المعارف ما يبهت أولئك الهمم وهي من علوم الإطلاق الخارجة عن الحصر الأيني الفلكي وعن الحصر الروحاني العقلي فهم مع كونهم في ظلمة الطبيعة على نور أضاءت به تلك الظلمة لوجود المشاهدة وهؤلاء هم الذين يعرفون أن إدراك الأشياء المرئية إنما هو من اجتماع نور البصر مع نور الجسم المستنير شمسا كان أو سراجا أو ما كان فتظهر المبصرات فلو فقد الجسم المستنير ما ظهر شئ ولو فقد البصر ما أضاء شئ مما يدركه البصر مع النور الخارج أصلا ألا ترى صاحب الكشف إذا أظلم الليل وانغلق عليه باب بيته ويكون معه في تلك الظلمة شخص آخر وقد تساويا في عدم الكشف للمبصرات فيكون أحدهم ممن يكشف له في أوقات فيتجلى له نور يجتمع ذلك النور مع نور البصر فيدرك ما في ذلك البيت المظلم مما أراد الله أن يكشف له منه كله أو بعضه يراه مثل ما يراه بالنهار أو بالسراج ورفيقه الذي هو معه لا يرى إلا الظلمة غير ذلك لا يراه فإن ذلك النور ما تجلى له حتى يجتمع بنور بصره فينفر حجاب الظلمة فلو لم يكن الأمر كما ذكرناه لكان صاحب هذا الكشف مثل صاحبه لا يدرك شيئا أو يكون رفيقه مثله يدرك الأشياء فيكون إما من أهل الكشف مثله أو يدركه بنور العلم فإن المكاشف يدركه بنور الخيال كما يدركه النائم ورفيقه إلى جانبه مستيقظ لا يرى شيئا كذلك صاحب الكشف ولو سألت صاحب الكشف هل ترى ظلمة في حال كشفك لقال لا بل يقول أنارت البقعة حتى قلت إن الشمس ما غابت فأدركت المبصرات كما أدركها نهارا وهذه المسألة ما رأيت أحدا نبه عليها إلا أن كان وما وصل إلي فالكون كله في أصله مظلم فلا يرى إلا بالنورين فإنه يحدث هذا الأمر ونظيره الذي يؤيده إيجاد العالم فإنه من حيث ذاته عدم ولا يكتسب الوجود إلا من كونه قابلا وذلك لإمكانه واقتدار الحق المخصص المرجح وجوده على عدمه فلو زال القبول من الممكن لكان كالمحال لا يقبل الإيجاد وقد اشترك المحال والممكن قبل الترجيح بالوجود في العدم كما أنه مع قبوله لو لم يكن اقتدار الحق ما وجد عين هذا المعدوم الذي هو الممكن فلم تظهر الأعيان المعدومة للوجود إلا بكونها قابلة وهو مثل نور البصر وكون الحق قادرا وهو مثل نور الجسم النير فظهرت الأعيان كما ظهرت المبصرات بالنورين فكما إن الممكن لا يزال قابلا والحق مقتدرا ومريدا فينحفظ على الممكن إبقاء الوجود إذ له من ذاته العدم كذلك الباصر لا يزال نور بصره في بصره والشمس متجلية في نورها فتحفظ الأبصار المتعلق بالمبصرات وهي من ذاتها أعني المبصرات غير منورة بل هي مظلمة فاعقل إن كنت تعقل فهذا الأمر أصل ضلال العقلاء وهم لا يشعرون لما لم يعقلوه وهو سر من أسرار الله تعالى جهله أهل النظر ومن هذه المسألة يتبين لك قدم الحق وحدوث الخلق لكن على غير الوجه الذي يعقله أهل الكلام وعلى غير الوجه الذي تعقله الحكماء باللقب لا بالحقيقة فإن الحكماء على الحقيقة هم أهل الله الرسل والأنبياء والأولياء إلا أن الحكماء باللقب أقرب إلى العلم من غيرهم حيث لم يعقلوا الله إلا إلها وأهل الكلام من النظار ليس كذلك فأقطاب أهل الليل من يكون الليل في حقهم كالنهار كشفا وشغلا قال تعالى وإنكم لتمرون عليهم مصبحين وبالليل أفلا تعقلون أي تعلمون منهم في الصباح ما تعلمون منهم في الليل إذ كان ليلا عند غيرهم ممن ليس له مقام
(٢٤٠)