فجاء في الجواب توقيع آخر فيه مكتوب إن الله لا يغفر أن يشرك به ويغفر ما دون ذلك لمن يشاء فقال وحشي ما أدري هل أنا ممن شاء أن يغفر له أم لا فجاء في الجواب توقيع ثالث فيه مكتوب يا عبادي الذين أسرفوا على أنفسهم لا تقنطوا من رحمة الله إن الله يغفر الذنوب جميعا إنه هو الغفور الرحيم فلما قرأ وحشي هذا التوقيع قال الآن فأسلم رجعنا إلى التوقيع الأول فنقول فلما قرأ هذا التوقيع الصادق الذي لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه تنزيل من حكيم حميد قال له حاجب الباب وهو الشارع إن التائب من الذنب كمن لا ذنب له فلما ورد عليه هذا الأمان عقيب ذلك الخوف الشديد وجد للأمان حلاوة ولذة لم يكن يعرفها قبل ذلك وقد قيل في ذلك أحلى من الأمن عند الخائف الوجل فعند ما يحصل له طعم هذه اللذة وشرع في الأعمال الصالحة وتطهر محله واستعد لمجالسة الملك فإنه يقول أنا جليس من ذكرني وتقوت معرفته به سبحانه وعلم ما يستحقه جلاله وعلم قدر من عصاه استحيا كل الحياء وذهبت لذته التي وجدها عند ورود وارد توبته عليه واطلع ورأى الحضرة الإلهية تطالبه بالأدب والشكر على ما أولاه من النعم فيكثر همه وغمه وتنتفي لذته ولهذا ترى العلماء بالله لا يرون في نومهم ما يراه المريدون أصحاب البدايات من الأنوار فإن المبتدئ يستحضر مستحسنات أعماله وأحواله فيرى نتائجها والعالمون ينامون على رؤية تقصير وتفريط لما يستحقه الجناب العالي فلا يرى في النوم إلا ما يهمهم من ظلمات ورعد وبرق وكل أمر مخوف فإن النوم تابع للحس ولما كانت النفس بطبعها تحب الأمور الملذوذة وقد فقدت لذة التوبة في حال معرفتها ونهايتها لذلك حنت إلى بدايتها من أجل ما اقترن بذلك الموطن من اللذة مع علو مقامه ويكون هذا الحنان استراحة لهمه وغمه الذي أعطته معرفته بالله فهو مثل الذي يلتذ بالأماني فهذا سبب حنين أصحاب النهايات إلى بدايتهم وأما المنازل السفلية فهي ما تعطيه الأعمال البدنية من المقامات العلوية كالصلاة والجهاد والصوم وكل عمل حسي وما تعطيه أيضا الأعمال النفسية وهي الرياضات من تحمل الأذى والصبر عليه والرضي بالقليل من ملذوذات النفوس والقناعة بالموجود وإن لم تكن به الكفاية وحبس النفس عن الشكوى فإن كل عمل من هذه الأعمال الرياضية والمجاهدات له نتائج مخصوصة ولكل عمل حال ومقام وقد أبان عن بعض ذلك الشارع ليستدل بما ذكره على ما سكت عنه من حيث اختلاف النتائج لاختلاف الصفات وتعريفا بأن النوافل من كل عبادة مفروضة صفتها من صفة فريضتها ولهذا تكمل له منها إذا كانت فريضته ناقصة ورد في الحديث الصحيح عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال أول ما ينظر فيه من عمل العبد الصلاة فيقول الله انظروا في صلاة عبدي أتمها أم نقصها فإن كانت تامة كتبت له تامة وإن كان انتقص منها شيئا قال انظروا هل لعبدي من تطوع فإن كان له تطوع قال أكملوا لعبدي فريضته من تطوعه ثم تؤخذ الأعمال على ذاكم وأما الحديث الآخر في صفات العبادات فإنه ورد في الصحيح أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال الصلاة نور والصدقة برهان والصبر ضياء والقرآن حجة لك أو عليك كل الناس يغدو فبائع نفسه فمعتقها أو موبقها فجعل النور للصلاة والبرهان للصدقة وهي الزكاة والضياء للصوم والحج وهو المعبر عنه بالصبر لما فيها من المشقة للجوع والعطش وما يتعلق بأفعال الحج وجعل لا إله إلا الله في خبر آخر لا يزنها شئ ونوافل كل فريضة من هذه الفرائض من جنسها فصفتها كصفتها ثم أدخل في قوله كل الناس يغدو فبائع نفسه فمعتقها وهو الذي باعها من الله قال تعالى إن الله اشترى من المؤمنين أنفسهم أو موبقها وهو الذي اشترى الضلالة بالهدى والعذاب بالمغفرة فعم بقوله كل الناس يغدو فبائع نفسه جميع أحكام الشريعة نافلتها وفريضتها ومباحها ومكروهها فما من عبادة شرعها الله تعالى لعباده إلا وهي مرتبطة باسم إلهي أو حقيقة إلهية من ذلك الاسم يعطيه في عبادته تلك ما يعطيه في الدنيا في قلبه من منازله وعلومه ومعارفه وفي أحواله من كراماته وآياته وفي آخرته في جناته في درجاته ورؤية خالقه في الكثيب في جنة عدن خاصة في مراتبه وقد قال الله عز وجل في المصلي إنه يناجيه وهو نور فيناجيه الله تعالى من اسمه النور لا من اسم آخر فكما أن النور ينفر كل ظلمة كذلك الصلاة تقطع كل شغل بخلاف سائر الأعمال فإنها لا نعم ترك كل ما سواها مثل الصلاة فلهذا كانت نورا يبشره الله بذلك أنه إذا ناجاه من اسمه النور انفرد به وأزال كل كون بشهوده عند مناجاته ثم شرعها في المناجاة سرا
(٢٥٦)