في أي صورة ما شاء وأي حرف نكرة مثل حرف ما فإنه حرف يقع على كل شئ فأبان لك أن المزاج لا يطلب صورة بعينها ولكن بعد حصولها تحتاج إلى هذا المزاج وترجع به فإنه بما فيه من القوي التي لا تدبره إلا بها فإنه بقواه لها كالآلات لصانع النجارة أو البناء مثلا إذا هيئت وأتقنت وفرع منها تطلب بذاتها وحالها صانعا يعمل بها ما صنعت له وما تعين زيدا ولا عمرا ولا خالدا ولا واحدا بعينه فإذا جاء من جاء من أهل الصنعة مكنته الآلة من نفسها تمكينا ذاتيا لا تتصف بالاختيار فيه فجعل يعمل بها صنعته بصرف كل آلة لما هيئت له فمنها مكملة وهي المخلقة يعني التامة الخلقة ومنها غير مكملة وهي غير المخلقة فينقص العامل من العمل على قدر ما نقص من جودة الآلة ذلك ليعلم أن الكمال الذاتي لله سبحانه فبين لك الحق مرتبة جسدك وروحك لتنظر وتفتكر فتعتبر أن الله ما خلقك سدى وإن طال المدى وأما القصد الذي هو النية شرط في صحة هذا النظر بخلاف قال تعالى فتيمموا صعيدا طيبا أي اقصدوا التراب الذي ما فيه ما يمنع من استعماله في هذه العبادة من نجاسة ولم يقل ذلك في طهارة الماء فإنه أحال على الماء المطلق لا المضاف فإن الماء المضاف مقيد بما أضيف إليه عند العرب فإذا قلت للعربي أعطني ما جاء إليك بالماء الذي هو غير مضاف ما يفهم العرب منه غير ذلك وما أرسل رسول ولا أنزل كتاب إلا بلسان قومه يقول رسول الله صلى الله عليه وسلم إنما أنزل القرآن بلساني لسان عربي مبين يقول تعالى إنا جعلناه قرآنا عربيا لعلكم تعقلون فلهذا لم يقل بالقصد في الماء لأنه سر الحياة فيعطي الحياة بذاته سواء قصد أم لم يقصد بخلاف التراب فإنه إن لم يقصد الصعيد الطيب فليس بنافع لأنه جسد كثيف لا يسرى فروحه القصد فإن القصد معنى روحاني فافتقر المتيمم للقصد الخاص في التراب أو الأرض بخلاف أيضا ولم يفتقر المتوضئ بالماء بخلاف فقال اغسلوا ولم يقل تيمموا ماء طيبا فإن قالوا إنما الأعمال بالنيات وهي القصد والوضوء عمل قلنا سلمنا ما تقول ونحن نقول به ولكن النية هنا متعلقها العمل لا الماء والماء ما هو العمل والقصد هنالك للصعيد فيفتقر الوضوء بهذا الحديث للنية من حيث ما هو عمل لا من حيث ما هو عمل بماء فالماء هنا تابع للعمل والعمل هو المقصود بالنية وهنالك القصد للصعيد الطيب والعمل به تبع يحتاج إلى نية أخرى عند الشروع في الفعل كما يفتقر العمل بالماء في الوضوء والغسل وجميع الأعمال المشروعة إلى الإخلاص المأمور به وهو النية بخلاف قال تعالى وما أمروا إلا ليعبدوا الله مخلصين له الدين وفي هذه الآية نظر وهذه مسألة ما حققها الفقهاء على الطريقة التي سلكنا فيها وفي تحقيقها فافهم ولم يقل في الماء تيمموا الماء فيفتقر إلى روح من النية والماء في نفسه روح فإنه يعطي الحياة من ذاته قال تعالى وجعلنا من الماء كل شئ حي فإن كل شئ يسبح بحمد الله ولا يسبح إلا حي فالماء أصل الحياة في الأشياء ولهذا وقع الخلاف بين علماء الشريعة في النية في الوضوء هل هي شرط في صحته أو ليست بشرط في صحته والسر ما ذكرناه فإن قيل إن الإمام الذي لا يرى النية في الوضوء يراها في غسل الجنابة وكلا العبادتين بالماء وهو سر الحياة فيهما قلنا لما كانت الجنابة ماء وقد اعتبر الشرع الطهارة منها لدنس حكمي فيها لامتزاج ماء الجنابة بما في الأخلاط وكون الجنابة ماء مستحيلا من دم فشاركت الماء في سر الحياة فتمانعا فلم يقو الماء وحده على إزالة حكم الجنابة لما ذكرنا فافتقر إلى روح مؤيد له عند الاغتسال فاحتاج إلى مساعدة النية فاجتمع حكم النية وهي روح معنوي وحكم الماء فأزالا بالغسل حكم الجنابة بلا شك كأبي حنيفة ومن قال بقوله في هذه المسألة ومن راعى كون ماء الجنابة لا يقوى قوة الماء المطلق لأنه ماء استحال من دم كماء الجنابة إلى ممازجته بالأخلاط ومفارقته إياه بالكثافة واللونية قال قد ضعف ماء الجنابة عن مقاومة الماء المطلق فلم يفتقر عنده إلى نية كالحسن بن حي والمخالف لهما من العلماء ما تفطنوا لما رأياه هذان الإمامان ومن ذهب مذهبهما فاجعل بالك لما بينته لك ورجح ما شئت (وصل) وبعد أن تحققت هذا فاعلم إن الماء ماءان ماء ملطف مقطر في غاية الصفاء والتخليص وهو ماء الغيث فإنه ماء مستحيل من أبخرة كثيفة قد أزال التقطير ما كان تعلق به من الكثافة وذلك هو العلم الشرعي اللدني فإنه عن رياضة ومجاهدة وتخليص فطهر به ذاتك لمناجاة ربك والماء الآخر ماء لم يبلغ في للطافة هذا المبلغ وهو ماء العيون والأنهار فإنه ينبع من الأحجار ممتزجا بحسب البقعة التي ينبع بها ويجري عليها فيختلف طعمه فمنه عذب فرات ومنه ملح أجاج ومنه مر زعاق وماء الغيث على حالة واحدة
(٣٣٢)