صلوات الله عليهم فإنهم في باب تشريع الاكتساب فإذا وقفوا مع نبوتهم لا مع رسالتهم كان حالهم مع الله حال ما ذكرناه من ترك طلب ما سواه والأشراف فهم مع الله واقفون وإليه ناظرون وبه ناطقون في كل منطوق به ومنظور إليه وموقوف عنده وكما أنهم به ناطقون هم به سامعون يذكرون عباده تعبدا ويطيعون عباده تعبدا ويجتهدون ولا يفترون عبادة لا تعرضا ولا طلبا إلا وفاء لما يقتضيه مقام من كلفهم من حيث ما هو مكلف لا من وجه آخر ومقام من كلف فهو يهبهم من لدنه علما لم يكن مطلوبا لهم فيكون مكتسبا ومن أسمائه سبحانه المؤمن وهو من نعوت العبد لا من أسماء العبد فإنه إذا كان اسما لم يعلل وإذا كان صفة ونعتا علل فهو لله اسم وللعبد صفة هذا هو الأدب مع الله وقد ورد في معنى ما أشرنا إليه حديث ذكره أبو عمر ابن عبد البر النمري عن خالد بن عدي الجهني قال سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول من جاءه من أخيه معروف من غير أشراف ولا مسألة فليقبله ولا يرده فإنما هو رزق ساقه الله إليه فجمع هذا الحديث بين الأمر بالقبول والنهي عن الرد فحصل فيه التكليف كله فإن التكليف ما هو سوى أمر ونهي ومما يؤيد صحة هذا الحديث ما خرجه مسلم في صحيحه عن ابن عمران رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يعطي عمر بن الخطاب العطاء فيقول أعطه يا رسول الله أفقر إليه مني فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم خذه فتموله أو تصدق به وما جاءك من هذا المال وأنت غير مشرف ولا سائل فخذه وما لا فلا تتبعه نفسك فالأكابر لا يسألون أحدا شيئا إلا إذا كان الله مشهودهم في الأشياء ولا يردون شيئا أعطوه فإن الأدب مع الله أن لا ترد على الله ما أعطاك وفتنة العلم أعظم من فتنة المال فإن شرف المال شرف عارض لا يتعدى أفواه الناس ليس للنفس منه صفة وشرف العلم حلية تتحلى بها النفس ففتنته أعظم ولا زوال له عن صاحبه في حال فقره وغناه ونوائبه والمال يزول عن صاحبه بلص يأخذه أو حرق أو غرق أو هدم أو زلزلة أو جائحة سماوية أو فتنة أو سلطان والعلم منك في حصن حصين لا يوصل إليه أبدا يلزم الإنسان حيا وميتا دنيا وآخرة وهو لك على كل حال وإن كان عليك في وقت ما فهو لك في آخر الأمر وإن أصابتك الآفات من جهته فلا تكثرت فليس إلا لشرفه حيث لم تعمل به فما أصبت إلا من تركك العمل به لا منه فإذا نجوت أخذ بيدك إلى منزلته ومنزلته معلومه ومعلومه الحق فينزلك بالحق على قدر ذلك العلم فلا تكن من الجاهلين (وصل في فصل إيجاب الله الزكاة في المولدات) اعلم أن الله أوجب الزكاة في المولدات وهي ثلاثة معدن ونبات وحيوان فالمعدن ذهب وفضة والنبات حنطة وشعير وتمر والحيوان إبل وبقر وغنم فعم جميع المولدات وأطلق عليها اسم المولدات لأنها تولدت عن أم وأب عن فلك وحركته الذي هو بمنزلة الجماع وهو الأب والأركان الأم فكان المال محبوبا للإنسان حب الولد ألا ترى الله قرنه بالولد في الفتنة فقال إنما أموالكم وأولادكم فتنة فقدم المال على الولد في الذكر والله عنده أجر عظيم إذا رزأكم في شئ منهما فالزكاة وإن كانت طهارة الأموال وطهرت أربابها من صفة البخل فهي رزء في المال بلا شك فلصاحبها أجر المصاب وهو من أعظم الأجور والولد شجنة من الوالد كالرحم شجنة من الرحمن من وصلها وصله الله ومن قطعها قطعه الله قال بعض الشعراء في الأولاد وهو من شعر الحماسة وإنما أولادنا بيننا * أكبادنا تمشي على الأرض فجعل الولد قطعة من الكبد وقال عيسى عليه السلام لأصحابه قلب كل إنسان حيث ما له فاجعلوا أموالكم في السماء تكن قلوبكم في السماء فحث على الصدقة لما علم إن الصدقة تقع بيد الرحمن وهو يقول أأمنتم من في السماء والصدقة تطفئ غضب الرب فانظر ما أعجب كلام النبوة وما أدقه وأحلاه فمن ألحق الولد بالوالد ووصله به فله أجر من وصل الرحم فينبغي للإنسان أن يلحق ماله من حيث ما هو مولد مولود بأبيه الذي تولد عنه لأنه قطعة منه فللانسان المتصدق في صدقة زكاته أجر المصيبة وأجر صلة الرحم إذا زكى ماله والصبر علي فقد المحبوب من أعظم الصبر ولا يصبر على ذلك إلا مؤمن أو عارف فإن الزاهد لا زكاة عليه لأنه ما ترك له شيئا تجب فيه الزكاة لأن الزهد يقتضي ذلك والعارف ليس كذلك لأن العارف يعلم أن فيه من حيث ما هو مجموع العالم من يطلب المال فيوفيه حقه فتجب عليه الزكاة من ذلك
(٥٨٣)