سبحانه في كتابه بسم الله الرحمن الرحيم في كل سورة إذ كانت السور تحوي على أمور مخوفة تطلب أسماء العظمة والاقتدار فقدم أسماء الرحمة تأنيسا وبشرى ولهذا قالوا في سورة التوبة إنها والأنفال سورة واحدة حيث لم يفصل بينهما بالبسملة وفي ذلك خلاف منقول بين علماء هذا الشأن من الصحابة ولما علم الله تعالى ما يجري من الخلاف في هذه الأمة في حذف البسملة من سورة براءة فمن ذهب إلى أنها سورة مستقلة وكان القرآن عنده مائة وثلاث عشرة سورة فيحتاج إلى مائة وثلاث عشرة بسملة أظهر لهم في سورة النمل بسملة ليكمل العدد وجاء بها كما جاء بها في أوائل السور بعينها فإن لغة سليمان عليه السلام لم تكن عربية وإنما كانت أخرى فما كتب لغة هذا اللفظ في كتابه وإنما كتب لفظة بلغته تقتضي معناها باللسان العربي إذا عبر عنها بسم الله الرحمن الرحيم وأتى بها محذوفة الألف كما جاءت في أوائل السور ليعلم أن المقصود بها هو المقصود بها في أوائل السور ولم يعمل ذلك في باسم الله مجراها واقرأ باسم ربك فأثبت الألف هناك ليفرق ما بين اسم البسملة وغيرها ولهذا تتضمن سورة التوبة من صفات الرحمة والتنزل الإلهي كثيرا فإن فيها شراء الله نفوس المؤمنين منهم بأن لهم الجنة وأي تنزل أعظم من أن يشتري السيد ملكه من عبده وهل يكون في الرحمة أبلغ من هذا فلا بد أن تكون التوبة والأنفال سورة واحدة أو تكون بسملة النمل السليمانية لسورة التوبة ثم انظر في اسمها سورة التوبة والتوبة تطلب الرحمة ما تطلب التبري وإن ابتدأ عز وجل بالتبري فقد ختم بآية لم يأت بها ولا وجدت إلا عند من جعل الله شهادته شهادة رجلين فإن كنت تعقل علمت ما في هذه السورة من الرحمة المدرجة ولا سيما في قوله تعالى ومنهم ومنهم وذلك كله رحمة بنا لنحذر الوقوع فيه والاتصاف بتلك الصفات فإن القرآن علينا نزل فلم تتضمن سورة من القرآن في حقنا رحمة أعظم من هذه السورة لأنه كثر من الأمور التي ينبغي أن يتقيها المؤمن ويجتنبها فلو لم يعرفنا الحق تعالى بها ربما وقعنا فيها ولا نشعر فهي سورة رحمة للمؤمنين وإذ وقد عرفناك بمنازله فاعلم أن رجاله هم كل من كان حاله من أهل الله حال من أحاطت به الأسماء الجبروتية من جميع عالمه العلوي والسفلي فيقع منه اللجأ والتضرع إلى أسماء الرحمة فيتجلى له الاسم الرحمن الذي له الأسماء الحسنى والذي به على العرش استوى فيهبه الاقتدار الإلهي فيمحو به آثار الأسماء القهرية فيتسع له المجال فينشرح الصدر ويجري النفس ويسرى فيه روح الحياة وتأتي إليه وفود الأسماء الرحمانية والحقائق الإلهية بالتهاني والبشائر فمن كانت هذه حالته ويعرفها ذوقا من نفسه وهو من رجال هذا المقام فلا يغالط نفسه وكل إنسان أعلم بحاله ولا ينفعك أن تنزل نفسك عند الناس منزلة ليست لك في نفس الأمر وقد نصحتك وأبنت لك عن طريق القوم فلا تكن من الجاهلين بما عرفناك به واعبد ربك حتى يأتيك اليقين فإن الله لا يخفى عليه شئ في الأرض ولا في السماء والله يقول الحق وهو يهدي السبيل (الباب الخمسون في معرفة رجال الحيرة والعجز) من قال يعلم أن الله خالقه * ولم يحركان برهانا بأن جهلا لا يعلم الله إلا الله فانتبهوا * فليس حاضركم مثل الذي غفلا العجز عن درك الإدراك معرفة * كذا هو الحكم فيه عند من عقلا هو الإله فلا تحصى محامده * هو النزيه فلا تضرب له مثلا اعلم أيدك الله بروح منه أن سبب الحيرة في علمنا بالله طلبنا معرفة ذاته جل وتعالى بأحد الطريقين إما بطريق الأدلة العقلية وإما بطريق تسمى المشاهدة فالدليل العقلي يمنع من المشاهدة والدليل السمعي قد أومأ إليها وما صرح والدليل العقلي قد منع من إدراك حقيقة ذاته من طريق الصفة الثبوتية النفسية التي هو سبحانه في نفسه عليها وما أدرك العقل بنظره إلا صفات السلوب لا غير وسمي هذا معرفة والشارع قد نسب إلى نفسه أمورا وصف نفسه بها تحيلها الأدلة العقلية إلا بتأويل بعيد يمكن أن يكون مقصودا للشارع ويمكن أن لا يكون وقد لزمه الايمان والتصديق بما وصف به نفسه لقيام الأدلة عنده بصدق هذه الأخبار عنه إنه أخبر بها عن نفسه في كتبه أو على ألسنة رسله فتعارض هذه الأمور
(٢٧٠)