والأماكن البعيدة من الناس فإن أنست به الوحوش وتألفت به وأنطقها الله في حقه فكلمته أو لم تكلمه فليعتزل عن الوحوش والحيوانات ويرغب إلى الله تعالى في أن لا يشغله بسواه وليثابر على الذكر الخفي وإن كان من حفاظ القرآن فيكون له منه حزب في كل ليلة يقوم به في صلاته لئلا ينساه ولا يكثر الأوراد ولا الحركات وليرد اشتغاله إلى قلبه دائما هكذا يكون دأبه وديدنه وأما الصمت فهو أن لا يتكلم مع مخلوق من الوحوش والحشرات التي لزمته في سياحته أو في موضع عزلته وإن ظهر له أحد من الجن أو من الملأ الأعلى فيغمض عينه عنهم ولا يشغل نفسه بالحديث معهم وإن كلموه فإن تفرض عليه الجواب أجاب بقدر أداء الفرض بغير مزيد وإن لم يفترض عليه سكت عنهم واشتغل بنفسه فإنهم إذا رأوه على هذه الحالة اجتنبوه ولم يتعرضوا له واحتجبوا عنه فإنهم قد علموا أنه من شغل مشغولا بالله عن شغله به عاقبه الله أشد عقوبة وأما صمته في نفسه عن حديث نفسه فلا يحدث نفسه بشئ مما يرجو تحصيله من الله فيما انقطع إليه فإنه تضييع للوقت فيما ليس بحاصل فإنه من الأماني وإذا عود نفسه بحديث نفسه حال بينه وبين ذكر الله في قلبه فإن القلب لا يتسع للحديث والذكر معا فيفوته السبب المطلوب منه في عزلته وصمته وهو ذكر الله تعالى الذي تتجلى به مرآة قلبه فيحصل له تجلى ربه وأما الجوع فهو التقليل من الطعام فلا يتناول منه إلا قدر ما يقيم صلبه لعبادة ربه في صلاة فريضته فإن التنفل في الصلاة قاعدا بما يجده من الضعف لقلة الغذاء أنفع وأفضل وأقوى في تحصيل مراده من الله من القوة التي تحصل له من الغذاء لأداء النوافل قائما فإن الشبع داع إلى الفضول فإن البطن إذا شبع طغت الجوارح وتصرفت في الفضول من الحركة والنظر والسماع والكلام وهذه كلها قواطع له عن المقصود وأما السهر فإن الجوع يولده لقلة الرطوبة والأبخرة الجالبة للنوم ولا سيما شرب الماء فإنه نوم كله وشهوته كاذبة وفائدة السهر التيقظ للاشتغال مع الله بما هو بصدده دائما فإنه إذا نام انتقل إلى عالم البرزخ بحسب ما نام عليه لا يزيد فيفوته خير كثير مما لا يعلمه إلا في حال السهر وأنه إذا التزم ذلك سرى السهر إلى عين القلب وانجلى عين البصيرة بملازمة الذكر فيرى من الخير ما شاء الله تعالى وفي حصول هذه الأربعة التي هي أساس المعرفة لأهل الله وقد اعتنى بها الحارث بن أسد المحاسبي أكثر من غيره وهي معرفة الله ومعرفة النفس ومعرفة الدنيا ومعرفة الشيطان وقد ذكر بعضهم معرفة الهوى بدلا من معرفة الله وأنشدوا في ذلك أني بليت بأربع يرمينني * بالنبل من قوس لها توتير إبليس والدنيا ونفسي والهوى * يا رب أنت على الخلاص قدير وقال الآخر إبليس والدنيا ونفسي والهوى * كيف الخلاص وكلهم أعدائي وأما الخمسة الباطنة فإنه حدثتني المرأة الصالحة مريم بنت محمد بن عبدون بن عبد الرحمن البجائي قالت رأيت في منامي شخصا كان يتعاهدني في وقائعي وما رأيت له شخصا قط في عالم الحس فقال لها تقصدين الطريق قالت فقلت له إي والله أقصد الطريق ولكن لا أدري بما ذا قالت فقال لي بخمسة وهي التوكل واليقين والصبر والعزيمة والصدق فعرضت رؤياها علي فقلت لها هذا مذهب القوم وسيأتي الكلام عليها إن شاء الله تعالى في داخل الكتاب فإن لها أبوابا تخصها وكذلك الأربعة التي ذكرناها لها أيضا أبواب تخصها في الفصل الثاني من فصول هذا الكتاب والله يقول الحق وهو يهدي السبيل انتهى الجزء السادس والعشرون (بسم الله الرحمن الرحيم) (الباب الرابع والخمسون في معرفة الإشارات) علم الإشارة تقريب وإبعاد * وسيرها فيك تأويب وإسئاد فابحث عليه فإن الله صيره * لمن يقوم به إفك وإلحاد
(٢٧٨)