وما ظفرت كفكم بالذي * تريد فيا خيبة السائل فلو كان فعلك في أمره * كفعل الفتى الحذر الواجل لميزت بيني وبين الذي * يجلي لك الحق كالباطل يقول الله تعالى وترى الناس سكارى وما هم بسكارى وذلك أن لله قوما كانت عقولهم محجوبة بما كانوا عليه من الأعمال التي كلفهم الحق تعالى في كتابه وعلى لسان رسوله صلى الله عليه وسلم التصرف فيها شرعا وشرعها لهم ولم يكن لهم علم بأن لله تعالى الحق فجأة لمن خلا به في سره وأطاعه في أمره وهيأ قلبه لنوره من حيث لا يشعر ففجأه الحق على غفلة منه بذلك وعدم علم واستعداد لهائل أمر فذهب بعقله في الذاهبين وأبقى تعالى ذلك الأمر الذي فجأه مشهودا له فهام فيه ومضى معه فبقي في عالم شهادته بروحه الحيواني يأكل ويشرب ويتصرف في ضروراته الحيوانية تصرف الحيوان المفطور على العلم بمنافعه المحسوسة ومضاره من غير تدبير ولا روية ولا فكر ينطق بالحكمة ولا علم له بها ولا يقصد نفعك بها لتتعظ وتتذكر أن الأمور ليست بيدك وأنك عبد مصرف بتصريف حكيم وسقط التكليف عن هؤلاء إذ ليس لهم عقول يقبلون بها ولا يفقهون بها تراهم ينظرون إليك وهم لا يبصرون خذ العفو أي القليل مما يجري الله على ألسنتهم من الحكم والمواعظ وهؤلاء هم الذين يسمون عقلاء المجانين يريدون بذلك أن جنونهم ما كان سببه فساد مزاج عن أمر كوني من غذاء أو جوع أو غير ذلك وإنما كان عن نجل إلهي لقلوبهم وفجأة من فجآت الحق فجأتهم فذهبت بعقولهم فعقولهم محبوسة عنده منعمة بشهوده عاكفة في حضرته متنزهة في جماله فهم أصحاب عقول بلا عقول وعرفوا في الظاهر بالمجانين أي المستورين عن تدبير عقولهم فلهذا سموا عقلاء المجانين قيل لأبي السعود بن الشبل البغدادي عاقل زمانه ما تقول في عقلاء المجانين من أهل الله فقال رضي الله عنه هو ملاح والعقلاء منهم أملح قيل له فبما ذا نعرف مجانين الحق من غيرهم فقال مجانين الحق تظهر عليهم آثار القدرة والعقلاء يشهد الحق بشهودهم أخبرني بذلك عنه صاحبه أبو البدر التماسكي رحمه الله وكان ثقة ضابطا عارفا بما ينقل لا يجعل فاء مكان واو فقال الشيخ من شاهد ما شاهدوا وأبقى عليه عقله فذلك أحسن وأمكن فإنه قد أقيم وأعطى من القوة قريبا مما أعطيت الرسل وإن تغيروا في وقت الفجأة فقد علمنا أن رسول الله صلى الله عليه وسلم لما فجأه الوحي جئت منه رعبا فأتى خديجة ترجف بوادره فقال زملوني زملوني وذلك من تجلى ملك فكيف به بتجلي ملك فلما تجلى ربه للجبل جعله دكا وخر موسى صعقا وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا جاءه الوحي ونزل الروح الأمين به على قلبه أخذ عن حسه وسجى ورغا كما يرغو البعير حتى ينفصل عنه وقد وعى ما جاءه به فيلقيه على الحاضرين ويبلغه للسامعين فمواجده صلى الله عليه وسلم من تجليات ربه على قلبه أعظم سطوة من نزول ملك ووارد في الوقت الذي لم يكن يسعه فيه غير ربه ولكن كان منتظرا مستعدا لذلك الهول ومع هذا يؤخذ عن نفسه فلولا أنه رسول مطلوب بتبليغ الرسالة وسياسة الأمة لذهب الله بعقول الرسل لعظيم ما يشاهدونه فمكنهم الله القوي المتين من القوة بحيث يتمكنون من قبول ما يرد عليهم من الحق ويوصلونه إلى الناس ويعملون به فاعلم إن الناس في هذا المقام على إحدى ثلاث مراتب منهم من يكون وارده أعظم من القوة التي يكون في نفسه عليها فيحكم الوارد عليه فيغلب عليه الحال فيكون بحكمه يصرفه الحال ولا تدبير له في نفسه ما دام في ذلك الحال فإن استمر عليه إلى آخر عمره فذلك المسمى في هذه الطريقة بالجنون كأبي عقال المغربي ومنهم من يمسك عقله هناك ويبقى عليه عقل حيوانيته فيأكل ويشرب ويتصرف من غير تدبير ولا روية فهؤلاء يسمون عقلاء المجانين لتناولهم العيش الطبيعي كسائر الحيوانات وأما مثل أبي عقال فمجنون مأخوذ عنه بالكلية ولهذا ما أكل وما شرب من حين أخذ إلى أن مات وذلك في مدة أربع سنين بمكة فهو مجنون أي مستور مطلق عن عالم حسه ومنهم من لا يدوم له حكم ذلك الوارد فيزول عنه الحال فيرجع إلى الناس بعقله فيدبر أمره ويعقل ما يقول ويقال له ويتصرف عن تدبير وروية مثل كل إنسان وذلك هو النبي وأصحاب الأحوال من الأولياء ومنهم من يكون وارده وتجليه مساويا لقوته فلا يرى عليه أثر من ذلك حاكم لكن يشعر عند ما يبصران ثم أمرا ما طرأ عليه
(٢٤٨)