في هذا الباب حتى نستوفيه في داخل الكتاب إن شاء الله تعالى وسأذكر في هذا الباب بعد هذا التتميم ما يكون من الحروف حارا رطبا وذلك لأنه دار به فلك غير الفلك الذي ذكرناه في أول الباب فاعلم إن الحرارة والرطوبة هي الحياة الطبيعية فلو كان لها فلك كما لأخواتها في المزجة لانقضت دورة ذلك الفلك وزال سلطانه كما يظهر في الحياة العرضية وكانت تنعدم أو تنتقل وحقيقتها تقضي بأن لا تنعدم فليس لها فلك ولهذا أنبأنا الباري تعالى أن الدار الآخرة هي الحيوان وأن كل شئ يسبح بحمده فصار فلك الحياة الأبدية الحياة الأزلية تمدها وليس لها فلك فتنقضي دورته فالحياة الأزلية ذاتية للحي لا يصح لها انقضاء فالحياة الأبدية المعلولة بالحياة الأزلية لا يصح لها انقضاء ألا ترى الأرواح لما كانت حياتها ذاتية لها لم يصح فيها موت البتة ولما كانت الحياة في الأجسام بالعرض قام بها الموت والفناء فإن حياة الجسم الظاهرة من آثار حياة الروح كنور الشمس الذي في الأرض من الشمس فإذا مضت الشمس تبعها نورها وبقيت الأرض مظلمة كذلك الروح إذا رحل عن الجسم إلى عالمه الذي جاء منه تبعته الحياة المنتشرة منه في الجسم الحي وبقي الجسم في صورة الجماد في رأى العين فيقال مات فلان وتقول الحقيقة رجع إلى أصله منها خلقناكم وفيها نعيدكم ومنها نخرجكم تارة أخرى كما رجع أيضا الروح إلى أصله حتى البعث والنشور يكون من الروح تجل للجسم بطريق العشق فتلتئم أجزاؤه وتتركب أعضاؤه بحياة لطيفة جدا تحرك الأعضاء للتأليف اكتسبته من التفات الروح فإذا استوت البنية وقامت النشأة الترابية تجلى له الروح بالرقيقة الإسرافيلية في الصور المحيط فتسري الحياة في أعضائه فيقوم شخصا سويا كما كان أول مرة ثم نفخ فيه أخرى فإذا هم قيام ينظرون وأشرقت الأرض بنور ربها كما بدأكم تعودون قل يحييها الذي أنشأها أول مرة فأما شقي وإما سعيد واعلم أن في امتزاج هذه الأصول عجائب فإن الحرارة والبرودة ضدان فلا يمتزجان وإذا لم يمتزجا لم يكن عنهما شئ وكذلك الرطوبة واليبوسة وإنما يمتزج ضد الضد بضد الضد الآخر فلا يتولد عنها أبدا إلا أربعة لأنها أربعة ولهذا كانت اثنان ضدين لاثنين فلو لم تكن على هذا لكان التركيب منها أكثر مما تعطيه حقائقها ولا يصح أن يكون التركيب أكثر من أربعة أصول فإن الأربعة هي أصول العدد فالثلاثة التي في الأربعة مع الأربعة سبعة والاثنان التي فيها مع هذه السبعة تسعة والواحد الذي في الأربعة مع هذه التسعة عشرة وركب ما شئت بعد هذا وما تجد عددا يعطيك هذا إلا الأربعة كما لا تجد عددا تاما إلا الستة لأن فيها النصف والسدس والثلث فامتزجت الحرارة واليبوسة فكان النار والحرارة والرطوبة فكان الهواء والبرودة والرطوبة فكان الماء والبرودة واليبوسة فكان التراب فانظر في تكون الهواء عن الحرارة والرطوبة وهو النفس الذي هو الحياة الحسية وهو المحرك لكل شئ بنفسه للماء والأرض والنار وبحركته تتحرك الأشياء لأنه الحياة إذ كانت الحركة أثر الحياة فهذه الأربعة الأركان المولدة عن الأمهات الأول ثم لتعلم إن تلك الأمهات الأول تعطي في المركبات حقائقها لا غير من غير امتزاج فالتسخين عن الحرارة لا يكون عن غيرها وكذلك التجفيف والتقبض عن اليبوسة فإذا رأيت النار قد أيبست المحل من الماء فلا تتخيل أن الحرارة جففته فإن النار مركبة من حرارة ويبوسة كما تقدم فبالحرارة التي فيها تسخن الماء وباليبوسة وقع التجفيف وكذلك التليين لا يكون إلا عن الرطوبة والتبريد عن البرودة فالحرارة تسخن والبرودة تبرد والرطوبة تلين واليبوسة تجفف فهذه الأمهات متنافرة لا تجتمع أبدا إلا في الصورة ولكن على حسب ما تعطيه حقائقها ولا يوجد منها في صورة أبدا واحد لكن يوجد إما حرارة ويبوسة كما تقدم من تركيبها وأما أن توجد الحرارة وحدها فلا لأنها لا يكون عنها على انفرادها إلا هي (وصل) فإن الحقائق على قسمين حقائق توجد مفردات في العقل كالحياة والعلم والنطق والحس وحقائق توجد بوجود التركيب كالسماء والعالم والإنسان والحجر فإن قلت فما السبب الذي جمع هذه الأمهات المتنافرة حتى ظهر من امتزاجها ما ظهر فهنا سر عجيب ومركب صعب يحرم كشفه لأنه لا يطاق حمله لأن العقل لا يعقله ولكن الكشف يشهده فلنسكت عنه وربما نشير إليه من بعيد في مواضع من كتابي هذا يتفطن إليه الباحث اللبيب ولكن أقول أراد المختار سبحانه أن يؤلفها لما سبق في علمه خلق العالم وإنها أصل أكثره أو أصله إن شئت فألفها ولم تكن موجودة في أعيانها ولكن أوجدها مؤلفة لم
(٥٥)