قائل إنهما فرض ومن قائل إن المضمضة سنة والاستنشاق فرض هذا حكمهما في الظاهر قد نقلناه فأما حكمهما في الباطن فمنهما ما هو فرض ومنهما ما هو سنة فأما المضمضة فالفرض منها التلفظ بلا إله إلا الله فإن بها يتطهر لسانك من الشرك وصدرك فإن حروفها من الصدر واللسان وكذلك في كل فرض أوجب الله عليك التلفظ به مما لا ينوب فيه عنك غيرك فيسقط عنك كفرض الكفاية كرجل أبصر أعمى على بعد يريد السقوط في حفرة يتأذى بالسقوط فيها أو يهلك فيتعين عليه فرضا أن ينادي به يحذره من السقوط بما يفهم عنه لكونه لا يلحقه فإن سبقه إنسان إلى ذلك سقط عنه ذلك الفرض الذي كان تعين عليه فإن تكلم به فهو خير له وليس بفرض عليه فإذا تمضمض في باطنه بهذا وأمثاله فقد أصاب خيرا وقال خيرا وهو حسن القول وصدق اللسان طهور من الكذب والجهر بالقول الحسن طهور من الجهر بالسوء من القول وإن كان جزاء بقوله إلا من ظلم ولكن السكوت عنه أفضل والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر طهور من نقيضيهما فمثل هذا فرض المضمضة وسننها وكذلك الاستنشاق فاعلم إن الاستنشاق في الباطن لما كان الأنف في عرف العرب محل العزة والكبرياء ولهذا تقول العرب في دعائها أرغم الله أنفه وقد اتفق هذا على رغم أنفه والرغام التراب أي حطك الله من كبريائك وعزك إلى مقام الذلة والصغار فكنى عنه بالتراب فإن الأرض سماها الله ذلولا على المبالغة فإن أذل الأذلاء من وطئه الذليل والعبيد أذلاء وهم يطئون الأرض بالمشي عليها في مناكبها فلهذا سماها ببنية المبالغة ولا يندفع هذا ولا تزول الكبرياء من الباطن إلا باستعمال أحكام العبودية والذلة والافتقار ولهذا شرع الاستنثار في الاستنشاق فقيل له اجعل في أنفك ماء ثم استنثر والماء هنا علمك بعبوديتك إذا استعملته في محل كبريائك خرج الكبرياء من محله وهو الاستنثار ومنه فرض واستعماله في الباطن فرض بلا شك وأما كونه سنة فمعناه أنك لو تركته صح وضوؤك ومحله في هذا القدر أنك لو تركت معاملتك لعبدك أو لمن هو تحت أمرك وهنا سر خفي يتضمنه رب أعطني كذا أو لمن هو دونك بالتواضع وأظهرت العزة وحكم الرياسة لمصلحة تراها أباحها لك الشارع فلم تستنشق جاز حكم طهارتك دون استعمال هذا الفعل وإن كان استعمالها أفضل فهذا موضع سقوط فرضها فلهذا قلنا قد يكون سنة وقد يكون فرضا لعلمنا أنه لو أجمع أهل مدينة على ترك سنة وجب قتالهم ولو تركها واحد لم يقتل فإن النبي صلى الله عليه وسلم كان لا يغير على مدينة إذا جاءها ليلا حتى يصبح فإن سمع أذانا أمسك وإلا أغار وكان يتلو إذا لم يسمع أذانا إنا إذا نزلنا بساحة قوم فساء صباح المنظرين وما من حكم من أحكام فرائض الشريعة وسننها واستحباباتها إلا ولها في الباطن حكم أو أزيد على قدر ما يفتح للعبد في ذلك فرضا كان أو سنة أو مستحبا لا بد من ذلك وحد ذلك في سائر العبادات المشروعة كلها وبهذا يتميز حكم الظاهر من الباطن فإن الظاهر يسرى في الباطن وليس في الباطن أمر مشروع يسرى في الظاهر بل هو عليه مقصور فإن الباطن معان كلها والظاهر أفعال محسوسة فينتقل من المحسوس إلى المعنى ولا ينتقل من المعنى إلى الحس (باب التحديد في غسل الوجه) لا خلاف إن غسل الوجه فرض وحكمه في الباطن المراقبة والحياء من الله مطلقا وذلك أن لا تتعدى حدود الله تعالى واختلف علماء الرسوم في تحديد غسل الوجه في الوضوء في ثلاثة مواضع منها البياض الذي بين العذار والأذن والثاني ما سدل من اللحية والثالث غسل اللحية فأما البياض المذكور فمن قائل إنه من الوجه ومن قائل إنه ليس من الوجه وأما ما انسدل من اللحية فمن قائل بوجوب إمرار الماء عليه ومن قائل بأن ذلك لا يجب وأما تخليل اللحية فمن قائل بوجوب تخليلها ومن قائل إنه لا يجب (وصل في حكم ما ذكرناه في الباطن) أما غسل الوجه مطلقا من غير نظر إلى تحديد الأمر في ذلك فإن منه ما هو فرض ومنه ما ليس بفرض فأما الفرض فالحياء من الله أن يراك حيث نهاك أو يفقدك حيث أمرك وأما السنة منه الحياء من الله أن تكشف عورتك في خلوتك فالله أولى أن تستحيي منه مع علمك أنه ما من جزء فيك إلا وهو يراه منك ولكن حكمه في أفعالك من حيث أنت مكلف ما ذكرناه وقد ورد به الخبر وكذلك النظر إلى عورة امرأتك وإن كان قد أبيح لك ذلك ولكن استعمال الحياء فيها أفضل وأولى فيسقط الفرض
(٣٣٨)