يسمى عرفة علمنا اعتبار أن ذلك موقف العلماء العارفين بالله فإن الله يقول إنما يخشى الله من عباده العلماء وقال ترى أعينهم تفيض من الدمع مما عرفوا من الحق وسيأتي الكلام إن شاء الله على هذا النوع في باب الحج من هذا الكتاب ولما رأى هذا المعتبر العالم تجرده عن المخيط اعتبر في تأليف الأدلة وتركيبها لحصول المعرفة بالله من طريق النظر الفكري بتركيب المقدمات وتأليفها فتظهر من ذلك صورة المعرفة بربه كالخائط الذي يؤلف قطع القميص بعضها إلى بعض فتظهر صورة القميص قيل له بتجريده المخيط حصل المعرفة بربك أو العلم بالله من التجلي الإلهي أو الرباني واطرح عنك في هذا الموقف وهذا اليوم النظر العقلي بتأليف المقدمات واشتغل اليوم بتحصيل المعرفة بربك من الامتنان الإلهي والوهب الرباني من الواهب الذي يعطي لينعم فإنه الذي يقذف في نفسك العلم به على كل حال سواء نظرت في تأليف المقدمات أو لم تنظر فعامله سبحانه بالتجريد فإنه أولى بك ولا تلتفت إلى تأليفك المقدمات النظرية في العلم بالله فإن ذلك ظلمة في المعرفة لا يراها إلا البصير إذ لا مناسبة بين ما تؤلفه من ذلك وبين ما تستحقه ذاته جل وتعالى علوا كبيرا ومن كان يطلب منه هذه الحالة في ذلك الموقف الكريم والمشهد الخطير العظيم كيف لا يغتسل ويتطهر في باطنه وقلبه عن التعلق في معرفته بربه بغيره فيزيل عنه قذر مشاهدة الأغيار ودرنها بعلم الحق بالحق دون علمه بنفسه إذ لا دليل عليه إلا هو لأن المعرفة تتعدى إلى مفعول واحد وأنت في عرفة والعلم يتعدى إلى مفعولين ولهذا يحصل لصاحب هذا المشهد عند العلمين إذا خرج من عرفة يريد المزدلفة وهي جمع يحصل له علم آخر يكون معلومه الله كما كان معلومه في عرفات الرب تعالى وهذا المفعول الواحد الحاصل لك في هذا اليوم هو علمك بربك لا بنفسك فتعرف الحق بالحق فيكون الحق الذي اغتسلت به يعطي تلك المعرفة به ويكون المغتسل منه اسم مفعول عين نفسك في دعواها في معرفة ربها بنفسها من طريق التعمل في تحصيلها وأين الدليل من الدليل هيهات وعزته ما تعرفه إن عرفته إلا به فافهم فهذا غسلك للوقوف بعرفة إن وفقت له والله المؤيد والملهم (باب الاغتسال لدخول مكة زادها الله تشريفا) اعلم أن دخول مكة هو القدوم على الله في حضرته فلا بد من تجديد طهارة لقلبك مما اكتسبه من الغفلات من زمان إحرامك من الميقات ظاهرا بالماء وباطنا بالعلم والحضور فطهارة الظاهر الاغتسال بالماء عبادة وتنظيفا وطهارة الباطن وهو القلب بالتبري طلبا للولاء فإنه لا ولاء للحق إلا بالبراءة من الخلق حيث كان نظرك إليهم بنفسك لا بالله فمن كان حاله الحضور الدائم مع الله لم يغتسل لدخول مكة إلا الغسل الظاهر بالماء لإقامة السنة وأما لباطن فلا إلا عند رؤية البيت فإنه يتطهر باطنا بحياء خاص لمشاهدة بيته الخاص كذا والطواف به الذين هم الطائفون كالحافين من حول العرش يسبحون بحمد ربهم إذ كان بيت الله بلا واسطة منذ خلق الله الدنيا ما جرت عليه يد مخلوق بكسب وليكن الاسم الإلهي الذي يتطهر به الاسم الأول من الأسماء الحسنى فإنه من نعوت البيت فتحصل المناسبة قال تعالى إن أول بيت وضع للناس للذي ببكة مباركا أي جعلت فيه البركة لعبادي والهدى فمن رأى البيت ولم يجد عنده زيادة إلهية فما نال من بركة البيت شيئا لأن البركة الزيادة فما أضافه الحق فدل على أن قصده غير صحيح فإن تعجيل الطعام للضيف سنة فليجعل اغتساله أولا لا يجعله ثانيا لما تقدمه من غسل الإحرام فإنه طهارة خاص تليق بمشاهدة البيت والطواف به لا مناسبة بينه وبين الاغتسال للإحرام إلا من وجه ما فإذا زعم أنه تطهر بهذا الطهر وفرع من طوافه يتفقد باطنه فإن الله ما جعل البركة فيه والهدى وهو البيان أي يتبين له ذلك الذي زاده ربه من العلم به فما جعلت البركة في البيت إلا أن يكون يعطي خازنه للطائف به القادم عليه من خلع البركة والقرب والعناية والبيان الذي هو الهدى في الأمور المشكلة في الأحوال والمسائل المبهمات الإلهية في العلم بالله ما يليق بمثل ذلك البيت المصطفى محل يمين الحق المبايع المقبل المسجود عليه فإن هذا البيت خزانة الله من البركات والهدى وقد نبه الشارع إشارة بذكر الكنز الذي فيه وأي كنز أعظم مما ذكر الله من البركة والهدى حيث جعلهما عين البيت فكنزه من أضيف إليه وهو الله فلينظر الطائف القادم إذا فرع من طوافه إلى قلبه فإن وجد زيادة من معرفة ربه وبيانا في معرفته لم تكن عنده فيعلم عند ذلك صحة اغتساله لدخول مكة وإن لم يجد شيئا من ذلك فيعلم أنه
(٣٦٠)