فإن لكم الجزاءين جزاء الشاكر وجزاء الصابر فهذا معنى تغيير النبي صلى الله عليه وسلم ثوبيه بالتنعيم وهو محرم فإن شاء قال الحمد لله المنعم المفضل وإن شاء قال الحمد لله على كل حال لوجود الحالين عنده فاعلم ذلك ألا ترى تلبيته صلى الله عليه وسلم لبيك إن الحمد فعم الحالتين ثم قال والنعمة لك وما قال والبلاء منك مع ظاهر الحال من المشقة والتحجير وأعظمها امتناعه مما حبب إليه وهو التمتع بالنساء (حديث ثان وعشرون لا حج لمن لم يتكلم) ذكر ابن الأعرابي عن زينب بنت جابر الأحمسية أن النبي صلى الله عليه وسلم قال لها في امرأة حجت معها مصمتة قولي لها تتكلم فإنه لا حج لمن لم يتكلم يروي هذا الحديث متصلا إلى زينب ذكره ابن حزم في كتاب المحلى قال تعالى إنا نحن نزلنا الذكر وهو كلام وهو صفة إلهية وأنت في عبادة مشروعة فينبغي بل يجب الكلام فيها بذكر ورد الحديث أن المناسك في الحج إنما وضعت لإقامة ذكر الله وعن الكلام صدرنا وهو قوله كن فكنا فالصمت حالة عدمية والكلام حالة وجودية فالكلام له الأثر وبه سمي كلاما لأنه من الكلم وهو الجرح والجرح أثر في البدن والإنسان موجود فلا ينبغي أن يتصف إلا بصفة وجودية وهو الكلام لا بوصف عدمي وهو الصمت فإن حقيقة الإنسان النطق فإذا صمت كذب على نفسه بالحال على إن الله قد جعل للصمت موطنا وهو صمت إضافي وهو ترك الكلام فيما لا يعني أو فيما يكون عليك لا لك (حديث ثالث وعشرون في رفع الصوت بالتلبية وهو الإهلال في الحج) ذكر النسائي عن السائب بن خلاد عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال جاءني جبريل عليه السلام فقال يا محمد مر أصحابك أن يرفعوا أصواتهم بالتلبية قد ثبت بالدليل العقلي والسمعي إن الله بكل شئ عليم وإنه سميع قريب وقد جاء الشرع بذلك فاستوى المؤمن والعالم فلم يبق لرفع الصوت بالتلبية لجناب الحق مدخل غير أنه تعالى أخبر أنه يباهي بالحاج ملائكته فإذا رفعوا أصواتهم وضجوا بالتلبية شعثا غبرا مهطعين إلى الله تعالى فإنه الداعي لهم كان أعظم عند الملائكة في المباهاة المرادة للحق في ذلك ثم إنه من الأرواح المفارقة لحالة الدنيا بالموت ممن دعانا إلى الحق بعمل الحج كما روى عن إبراهيم الخليل عليه السلام أنه لما بنى البيت أمره ربه تعالى أن يصعد عليه وأن يؤذن في الناس بالحج فقال يا رب وما عسى يبلع صوتي فأوحى إليه عليك بالنداء وعلى البلاغ فنادى إبراهيم عليه السلام يا أيها الناس إن لله بيتا فحجوه قال فاسمع الله ذلك النداء عباده فمنهم من أجاب ومنهم من لم يجب وكانت إجابتهم مثل قولهم بلي حين أشهدهم على أنفسهم ألست بربكم فأجابوه إجابة يسمعها من كان الحق سمعه منهم من سارع إلى إجابة الحق وهم الذين يسارعون في الخيرات والقائلين بأن الحج على الفور للمستطيع ومنهم من تلكأ في الإجابة فلم يسرع إلا بعد حين منهم الذين يقولون الحج مع الاستطاعة على التراخي فمن هناك قضوا في هذا الوقت بما قضوا به من ذلك وهم لا يشعرون لأن الله تعالى ما أطلعهم على هذا المشهد لما أخرجهم إلى الحياة الدنيا فهم عن الآخرة هم غافلون ثم إن الذين أجابوه منهم من كرر الإجابة ومنهم من لم يكرر فمن لم يكرر لم يحج إلا واحدة ومن كرر حج على قدر ما كرر وله أجر فريضة في كل حجة وقد نبه الشارع على ذلك بتكرار التلبية في الحج فقال لبيك اللهم لبيك لبيك لا شريك لك لبيك إن الحمد والنعمة لك والملك لا شريك لك لبيك إله الحق فأتى بخمس للتأذين بالحج تشبيها بالنداء للصلوات الخمس فيجيب لكل أذان لأنه كانت قرة عينه في الصلاة ومما يؤيد ما ذهبنا إليه إن الإهلال بالحج ما شرع إلا أثر صلاة لا بد منها ولقد رأيت رجلا بمكة من أهلها يزيد على الثلاثين سنة عمره ما حج قط ولا اعتمر ولا طاف بالبيت فكانت أول عمرة اعتمرها معي وكنت أعلمته كيف يصنع فيها وأخبرت عن رجل بجدة على ليلة من مكة يكون عمره بضعا وثمانين سنة ما حج قط وأخبرت عن رجل من أهل مصر من أهل الثروة ما حدث نفسه بالحج قط فقبض عليه عن أمر صاحب مكة لنازلة وقعت تخيل فيه أنه صاحب النازلة فجاءوا به إلى صاحب مكة وهو مقيد بالحديد ليقتله فوافق يوم الوقوف بعرفة فلما أبصره الواشي قال أيها الأمير ما هو هذا فخلى سبيله واعتذر إليه فاغتسل وأهل بالحج فهكذا هي العناية وأما من لم يجب
(٧٤٧)