يطول ذكره وقد نبهنا على ما فيه كفاية من ذلك مما تدخل فيه الأربعة الأقسام التي قسمنا العالم إليها في أول هذا الفصل (وصل في فصل أحوال الناس في الجهر بالصدقة والكتمان) من الناس من يراعي صدقة السر لأجل ثناء الحق على ذلك في الحديث الحسن الذي يتضمن قوله ما تدري شماله ما تنفق يمينه وما جاء في صدقة لسر واعتناء الله بذلك فيسر بها لعلم الله بما أنفق لا لغير ذلك من إخلاص وشبهه لأن القوم قد حفظهم الله عن الشرك الجلي والخفي فممن يخلصون وما ثم إلا الله لا رب غيره وذلك لمشاهدتهم الحق في الأعمال عاملا فيعلمون إن الحق تعالى ما ذكر باب السر في مثل هذا وفضله على الإعلان في حق من يرى هذا النظر إلا لعلم له في ذلك وإن لم يطلع عليه لا لأجل الإخلاص والجهر إذا الجهر والسر قد تساويا في حق هؤلاء في المعطي والآخذ ومن هذا الباب قوله من ذكرني في نفسه ذكرته في نفسي ومن ذكرني في ملأ ذكرته في ملأ خير منهم الحديث وأما صاحب الإعلان بالصدقة فليس هذا مشهده ولا أمثاله وإنما الغالب على قلبه وبصره مشاهدة الحق في كل شئ فكل حال عنده أعمال بلا شك ما يشهد غير هذا فيعلن بالصدقة كما يذكره في الملأ فإن من ذكره في الملأ فقد ذكره في نفسه فإن ذكر النفس متقدم بلا شك وما كل من ذكره في نفسه ذكره في ملأ فهذه حالة زائدة على الذكر النفسي لا مرتبة تفوت صاحب ذكر لنفس فإن ذكر النفس لا يطلع عليه في الحالتين فهو سر بكل وجه فصدقة الإعلان تؤذن بالاقتدار الإلهي فعمن يخفيها أو يسرها وهو الظاهر في المظاهر الإمكانية وهذه كانت طريقة شيخنا أبي مدين وكان يقول قل الله ثم ذرهم أغير الله تدعون وقد يعلن بها للتأسي وراثة نبوية وأما ما يذكر عامة أهل هذا الطريق كأبي حامد والمحاسبي وأمثالهما من العامة من الرياء وطلب الإخلاص فإنما ذلك خطاب الحق بلسان العموم ليعم بذلك ما هو لسان من لا يرى لا لله ونحن إنما نتكلم مع أهل الله في ذلك ولقد كان شيخنا يقول لأصحابه أعلنوا بالطاعة لله حتى تكون كلمة الله هي العلياء كما يعلن هؤلاء بالمعاصي والمخالفات وإظهار المنكرات ولا يستحيون من الله قال بعض السادة لأصحاب شيخ معتبر بماذا كان يأمركم شيخكم قال كان يأمرنا بالاجتهاد في الأعمال ورؤية التقصير فيها فقال أمركم والله بالمجوسية المحضة هلا أمركم بالأعمال وبرؤية مجريها ومنشئها فهذا من هذا الباب فقد نبهتك على دقائق صدقة السر والإعلان في نفوس القوم مع الخلاف الذي بين علماء الرسوم في الصدقة المكتوبة وصدقة التطوع وهو مشهور لا يحتاج إلى ذكره لشهرته من أجل طلب الاختصار والاقتصاد وفي صدقة الإعلان ورد من سن سنة حسنة الحديث وأما الكامل من أهل الله فهو الذي يعطي بالحالتين ليجمع بين المقامين ويحصل النتيجتين وينظر بالعينين ويسلك النجدين ويعطي باليدين فيعلن في وقت في الموضع الذي يرى أن الحق رجح فيه الإعلان ويسر بها في وقت الموضع الذي يرى أن الحق رجح فيه الأسرار وهذا هو الأولى بالكمل من أهل الله في طريق الله تعالى (وصل في فصل صدقة التطوع) صدقة التطوع عبودية اختيار مشوبة بسيادة وإن لم تكن هكذا فما هي صدقة تطوع فإنه أوجبها على نفسه إيجاب الحق الرحمة على نفسه لمن تاب وأصلح من العاملين السوء بجهالة فهذه مثلها ربوبية مشوبة يحكم عليه بها فإن الله تعالى لا يجب عليه شئ بإيجاب غيره فهو الموجب على نفسه الذي أوجبه من حيث ما هو موجب فمن أعطى من هذا الوجوب من هذه المنزلة ثم نفرض أن هذه المرتبة الإلهية إذا فعلت مثل هذا ونفرض لها ثوابا مناسبا على هذا الفعل فنعطيه بعينه لمن أعطى بهذا الوجوب من هذه المنزلة وهم أفراد من العارفين بصدقة التطوع فإن الحق من ذلك المقام يثيبه إذا كان هذا مشربه وهذه مسألة ذوقية مشهودة للقوم ولكن ما رأيت أحدا نبه عليها قبلي إلا إن كان وما وصل إلي فإنه لا بد لأهل الله المتحققين بهذا المقام من إدراك هذا ولكن قد لا يجريه الله على ألسنتهم أو تتعذر على بعضهم العبارة عن ذلك وقد ذكرناها في كتابنا هذا في غير هذا الموضع بأبسط من هذا القول وأوضح من هذه العبارة وبهذا الاعتبار تعلو صدقة التطوع على صدقة الفرض ابتداء فإن هذا التطوع أيضا قد يكون واجبا بإيجاب الله إذ أوجبه العبد على نفسه كالنذر فإن الله أوجبه بإيجاب العبد وغير النذر قد يلحق بهذا الباب قال الأعرابي في صحيح الحديث
(٥٩٠)