بين اسمين إلهيين فإن الأمر الإلهي دوري ولهذا لا يتناهى أمر الله في الأشياء فإن الدائرة لا أول لها ولا آخر إلا بحكم الفرض ولهذا خرج العالم مستديرا على صورة الأمر الذي هو عليه في نفسه حتى في الأشكال فأول شكل قبل الجسم الكل الشكل المستدير وهو الفلك ولما كانت الأشياء الكائنة من الله عند حركات هذه الأفلاك بما قدره العزيز العليم أعطت الحكمة أن تكون على صورته في الشكل أو ما يقاربها فما من حيوان ولا شجرة ولا ورقة ولا حجر ولا جسم إلا وفيه ميل إلى الاستدارة ولا بد منها لكنها تدق في أشياء وتظهر بينة في أشياء واجعل بالك في كل ما خلق الله تعالى من جبل وشجر وجسم تر فيه انعطافا إلى الاستدارة ولذلك كان الشكل الكري أفضل الأشكال ولما كان التجلي الأعظم العام يشبه طلوع الشمس ومع التجلي الشمس يكون الاعتكاف العام قيل للمعتكف بترجمان اسم ما إلهي ادخل في اعتكافك في وقت ظهور علامة التجلي الأعظم وهو طلوع الفجر وبعد صلاة الصبح ليقرب عليك الفتح ولا يقيدك هذا الاسم الإلهي الذي أقمت معه أو تريد الإقامة معه عن التجلي الأعظم الذي هو بمنزلة طلوع الشمس فتجمع في اعتكافك بين التقييد والإطلاق فإنه لو دخل المعتكف أول الليل بعدت عليه المسافة الزمانية وطال المدى فربما نسي ما هو الأمر عليه فإن الإنسان مجبول على النسيان قال رسول الله صلى الله عليه وسلم فنسي آدم فنسيت ذريته وجحد آدم فجحدت ذريته وهذا الحديث بشرى من النبي صلى الله عليه وسلم للناس كافة فإن آدم رحمه الله فرحمت ذريته كانوا حيثما كانوا جعل لهم رحمة تخصهم بأي دار أنزلهم الله تعالى فإن الأمر إضافي وإن الأصول تحكم على الفروع وهذا يدلك على إن هذه النفوس الإنسانية نتيجة عن هذه الأجسام العنصرية ومتولدة عنها فإنها ما ظهرت إلا بعد تسوية هذه الأجسام واعتدال أخلاطها فهي للنفوس المنفوخة فيها من الروح المضاف إليه تعالى كالأماكن التي تطرح الشمس شعاعاتها عليها فتختلف آثارها باختلاف القوابل أين ضوء نور الشمس في الأجسام الكثيفة منه في الأجسام الصقيلة فلهذا تفاضلت النفوس لتفاضل الأمزجة فترى نفسا سريعة القبول للفضائل والعلوم ونفسا أخرى في الضد منها وبينهما متوسطات فهكذا هو الأمر إن فهمت قال تعالى فإذا سويته يعني جسم الإنسان ونفخت فيه من روحي ولهذا قلنا إن النسيان في الإنسان أمر طبيعي يقتضيه المزاج كما إن التذكر أمر طبيعي أيضا في هذا المزاج الخاص وكذلك جميع القوي التي تنسب إلى الإنسان ألا تراه يقل فعل هذه القوي في أشخاص ويكثر في أشخاص فنبه الشارع بدخول المعتكف مكان اعتكافه بعد صلاة الفجر قبل طلوع الشمس (وصل في فصل إقامة المعتكف مع الله ما هي) اعلم أن الإقامة مع الله إنما هو أمر معنوي لا أمر حسي فلا يقام مع الله إلا بالقلب كما لا يتوجه في الصلاة إلى الله إلا بالقلب وكما تتوجه بوجهك إلى المسماة قبلة وهي الكعبة كذلك يقام بالحس مع أفعال البر وقد يكون من أفعال البر ملاحظة النفس ليؤدي إليها حقها المشروع لها فإن لنفسك عليك حقا وقد يؤثر نفسه على غيرها بإيصال الخير إليها وهو الذي شرعه الله لنا وما لنا طريق إلى الله إلا ما شرعه ولهذا يكلف الإنسان نفسه بعض مصالحها ليعود خير ذلك إليها كخروج المعتكف إلى حاجة الإنسان وإقباله على ما كان من نسائه وأهله ليصلح بعض شأنه في حال إقامته واعتكافه ذكر مسلم عن عائشة أنها قالت كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا اعتكف يدني إلى رأسه فارجله وكان لا يدخل البيت إلا لحاجة الإنسان وقال النسائي عنها قالت كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يأتيني وهو معتكف في المسجد فيتكئ على باب حجرتي فاغسل رأسه وأنا في حجرتي وسائره في المسجد وفي هذا دليل لمن يقول بالحكم للأغلب فإنه ما أخرجه كون رأسه في غير المسجد عن الاعتكاف لأن الأكثر منه في المسجد فراعى حكم الأكثر في الجرمية (وصل في فصل ما يكون عليه المعتكف في نهاره) ذكر أبو أحمد من حديث عبد الله بن بديل بن ورقاء المكي عن عمرو بن دينار عن ابن عمر عن عمر أنه نذر أن يعتكف في المسجد الحرام فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم اعتكف وصم (اعتباره) أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم من أراد الإقامة مع الله أن يقيم معه بصفة هي لله وهي الصوم ليكون مع الله بالله لله فلا يرى منه شئ
(٦٦٣)