في أي صورة شاء من صور سوق الجنة وما سمعت عن أحد نبه على هذا المقام إلا عن أبي بكر الصديق رضي الله عنه في دخوله في حين واحد من جميع أبواب الجنة الثمانية وعن ذي النون المصري في مسائله المشهورة مثل الميت يراه وليه ميتا لا حراك به ويراه الآخر بعينه حيا يسأل في الآن الواحد أما حديث أبي بكر رضي الله عنه فذكره البخاري في صحيحه من حديث أبي هريرة قال سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم نقول من أنفق زوجين من شئ من الأشياء في سبيل الله دعي من أي أبواب الجنة يا عبد الله هذا خير فمن كان من أهل الصلاة دعي من باب الصلاة ومن كان من أهل الجهاد دعي من باب الجهاد ومن كان من أهل الصدقة دعي من باب الصدقة ومن كان من أهل الصيام دعي من باب الصيام باب الريان فقال أبو بكر ما على هذا الذي يدعى من تلك الأبواب من ضرورة وقال هل يدعي منها كلها أحد يا رسول الله قال نعم وأرجو أن تكون منهم يا أبا بكر ودعاء الله الناس إلى الدخول يوم القيامة دعاء واحد لدخول الجنان فيدخل الواحد من الباب الواحد وآخر من بابين وثلاثة وأعمهم دخولا من دخل من الأبواب الثمانية لأن أعضاء التكليف ثمانية لكل عضو باب فلا تنكره في الثواب في الآن الواحد وأنت تشهده في العمل من فعل وترك كغاض بصره في حال استماع موعظة في حال تلاوة في حال صيام في حال تصدق في حال ورع في حال تحصين فرج كل ذلك بنية قربة إلى الله تعالى وفي كل باب منازل كالإيمان بالله بعض وسبعون شعبة أعلاها لا إله إلا الله وأدناها إماطة الأذى عن الطريق ولا أذى أعظم من أذى الشرك ولا طريق أعظم من طريق الايمان فختم بمثل ما به بدأ فلا إله إلا الله نفي ما سوى الله ممن يدعى أو يدعى فيه الألوهة وإماطة الأذى نفي الأذى عن الطريق فاجتمع آخر الدائرة بأولها وانعطف عليها وما بين هذين بقية شعب الايمان ولكل شعبة منزل في جنة الايمان فمن علم ما قلناه يدخل من أبواب الجنة كلها في زمان واحد والنشأة الآخرة تعطي هذه الأمور كما أعطت النشأة الدنيا جمع شعب الايمان في الإنسان في زمان واحد ولا يستحيل ذلك (وصل في فصل إعطاء الطيب من الصدقات عن طيب نفس) واعلم أن الطيب من الصدقات هو أن تتصدق بما تملكه ولا تملك إلا ما يحل لك أن تملكه عن طيب نفس وأعلى ذلك أن تكون فيه مؤديا أمانة سماها الشارع صدقة بلسان الرسم فتكون يدك يد الله عند الإعطاء ولهذا قلنا أمانة فإن أمثال هذا لا ينتفع بها خالقها وإنما يستحقها من خلقت من أجله وهو المخلوق فهي عند الله من الله أمانة لهذا العبد يؤديها إليه إما منه إليه وإما على يد عبد آخر هذا أطيب الصدقات لأنها على حد العلم الصحيح خرجت فإذا حصلت في يد المتصدق عليه أخذها الرحمن بيمينه فإن كان المعطي في نفس هذا العبد حين يعطيها هو الله المعطي فلتكن يده تعلو يد المتصدق عليه وهو السائل ولا بد فإن اليد العلياء هي يد الله وهي المنفقة وإن شاهد هذا المعطي يد الرحمن آخذة منه حين يتناولها السائل فتبقى يده من حيث إن المعطي هو الله تعلو على يد الرحمن كما هي فإن الرحمن صفة الله ونعت من نعوته ولكن ما يأخذ منها عينها وإنما يناله منها تقوى المعطي في إعطائه وأكمل وجوهه ما ذكرناه فشهد المعطي أن الله هو المعطي وأن الرحمن هو الآخذ وأن الرحمة هي المعطي وهي الصدقة فإذا أخذها الرحمن في يده بيمينه جعل محلها هذا العبد فأعطاه الرحمن إياها فلا يتمكن إلا ذلك فإن الصدقة رحمة فلا يعطيها إلا الرحمن بحقيقته وتناولها الله من حيث ما هو موصوف بالرحمن الرحيم لا من حيث مطلق الاسم والصدقة تقع بيد الرحمن قبل أن تقع بيد السائل هكذا جاء الخبر فمثل هذه الصدقة إذا أكلها السائل أثمرت له طاعة وهداية ونورا وعلما وهذا كله هو تربية الرحمن لها فإن جميع ما أعطته قوة هذه الصدقة في نفس السائل مما ذكرناه من طاعة وهداية ونور وعلم يراه في الآخرة في ميزانه وفي ميزان من أعطاه وهو المتصدق نائب الله فيقال له هذه ثمرة صدقتك قد عادت بركتها عليك وعلى من تصدقت عليه فإن صدقتك على زيد هي عين صدقتك على نفسك فإن خيرها عليك يعود وأفضل الصدقات ما يتصدق به الإنسان على نفسه فيحضر هذا أيضا المتصدق على أكمل الوجوه في نفسه فمثل هذه الصدقة لا يقال لمعطيها يوم القيامة من أين تصدقت ولا لمن أعطيت فإنه بهذه المثابة فإن كان الآخذ مثله في هذه المرتبة تساويا في السعادة وفضل المتصدق بدرجة واحدة لا غير وإن لم يكن بهذه المثابة فتكون بحيث الصفة التي يقيمه الله فيها فإن كانت الصدقة صدقة تطوع فهي منة إلهية
(٥٧٨)