تقدس الحق تعالى عن أن يدرك بذاته كالمحسوس أو بفعله كاللطيف أو المعقول لأنه سبحانه ليس بينه وبين خلقه مناسبة أصلا لأن ذاته غير مدركة لنا فتشبه المحسوس ولا فعلها كفعل اللطيف فيشبه اللطيف لأن فعل الحق تعالى إبداع الشئ لا من شئ واللطيف الروحاني فعل الشئ من الأشياء فأي مناسبة بينهما فإذا امتنعت المشابهة في الفعل فأحرى أن تمتنع المشابهة في الذات وإن شئت أن تحقق شيئا من هذا الفصل فانظر إلى مفعول هذا الفعل على حسب أصناف المفعولات مثل المفعول الصناعي كالقميص والكرسي فوجدناه لا يعرف صانعه إلا أنه يدل بنفسه على وجود صانعه وعلى علمه بصنعته وكذلك المفعول التكويني الذي هو الفلك والكواكب لا يعرفون مكونهم ولا المركب لهم وهو النفس الكلية المحيطة بهم وكذلك المفعول الطبيعي كالموالد من المعادن والنبات والحيوان الذين يفعلون طبيعة من المفعول التكويني ليس لهم وقوف على الفاعل لهم الذي هو الفلك والكواكب فليس العلم بالأفلاك ما تراه من جرمها وما يدركه الحس منها وأين جرم الشمس في نفسها منها في عين الرائي لها منا وإنما العلم بالأفلاك من جهة روحها ومعناها الذي أوجده الله تعالى لها عن النفس الكلية المحيطة التي سبب الأفلاك وما فيها وكذلك المفعول الانبعاثي الذي هو النفس الكلية المنبعثة من العقل انبعاث الصورة الدحيية من الحقيقة الجبرئيلية فإنها لا تعرف الذي انبعثت عنه أصلا لأنها تحت حيطته وهو المحيط بها لأنها خاطر من خواطره فكيف تعلم ما هو فوقها وما ليس فيها منه إلا ما فيها فلا تعلم منه إلا ما هي عليه فنفسها علمت لا سببهما وكذلك المفعول الإبداعي الذي هو الحقيقة المحمدية عندنا والعقل الأول عند غيرنا وهو القلم الأعلى الذي أبدعه الله تعالى من غير شئ هو أعجز وامنع عن إدراك فاعله من كل مفعول تقدم ذكره إذ بين كل مفعول وفاعله مما تقدم ذكره ضرب من ضروب المناسبة والمشاكلة فلا بد أن يعلم منه قدر ما بينهما من المناسبة إما من جهة الجوهرية أو غير ذلك ولا مناسبة بين المبدع الأول والحق تعالى فهو أعجز عن معرفته بفاعله من غيره من مفعولي الأسباب إذ قد عجز المفعول الذي يشبه سببه الفاعل له من وجوه عن إدراكه والعلم به فافهم هذا وتحققه فإنه نافع جدا في باب التوحيد والعجز عن تعلق العلم المحدث بالله تعالى (وصل) يؤيد ما ذكرناه أن الإنسان إنما يدرك المعلومات كلها بإحدى القوي الخمس القوة الحسية وهي على خمس الشم والطعم واللمس والسمع والبصر فالبصر يدرك الألوان والمتلونات والأشخاص على حد معلوم من القرب والبعد فالذي يدرك منه على ميل غير الذي يدرك منه على ميلين والذي يدرك منه على عشرين باعا غير الذي يدرك منه على ميل والذي يدرك منه ويده في يده يقابله غير الذي يدرك منه على عشرين باعا فالذي يدرك منه على ميلين شخص لا يدري هل هو إنسان أو شجرة وعلى ميل يعرف أنه إنسان وعلى عشرين باعا أنه أبيض أو أسود وعلى المقابلة أنه أزرق أو أكحل وهكذا سائر الحواس في مدركاتها من القرب والبعد والباري سبحانه ليس بمحسوس أي ليس بمدرك بالحس عندنا في وقت طلبنا المعرفة به فلم نعلمه من طريق الحس وأما القوة الخيالية فإنها لا تضبط إلا ما أعطاها الحس إما على صورة ما أعطاها وإما على صورة ما أعطاه الفكر من حمله بعض المحسوسات على بعض وإلى هنا انتهت طريقة أهل الفكر في معرفة الحق فهو لسانهم ليس لساننا وإن كان حقا ولكن ننسبه إليهم فإنه نقل عنهم فلم تبرح هذه القوة كيفما كان إدراكها عن الحس البتة وقد بطل تعلق الحس بالله عندنا فقد بطل تعلق الخيال به وأما القوة المفكرة فلا يفكر الإنسان أبدا إلا في أشياء موجودة عنده تلقاها من جهة الحواس وأوائل العقل ومن الفكر فيها في خزانة الخيال يحصل له علم بأمر آخر بينه وبين هذه الأشياء التي فكر فيها مناسبة ولا مناسبة بين الله وبين خلقه فاذن لا يصح العلم به من جهة الفكر ولهذا منعت العلماء من الفكر في ذات الله تعالى وأما القوة العقلية فلا يصح أن يدركه العقل فإن العقل لا يقبل إلا ما علمه بديهة أو ما أعطاه الفكر وقد بطل إدراك الفكر له فقد بطل إدراك العقل له من طريق الفكر ولكن مما هو عقل إنما حده أن يعقل ويضبط ما حصل عنده فقد يهبه الحق المعرفة به فيعقلها لأنه عقل لا من طريق الفكر هذا ما لا نمنعه فإن هذه المعرفة التي يهبها الحق تعالى لمن شاء من عباده لا يستقل العقل بإدراكها ولكن يقبلها فلا يقوم عليها دليل ولا برهان لأنها وراء طور مدارك العقل ثم هذه الأوصاف الذاتية لا تمكن العبارة عنها لأنها خارجة عن التمثيل والقياس فإنه ليس
(٩٤)