(فصل في الأموات الذين يجب غسلهم) فأما الأموات الذين يجب غسلهم فاتفقوا على غسل الميت والمقتول الذي لم يقتل في معترك حرب الكفار واختلفوا في الشهيد المقتول في حرب الكفار وفي غسل المشرك وفي غسل من ينطلق عليه اسم شهيد وفيمن قتله مشرك في غير المعترك فمن قائل يغسل كل هؤلاء ومن قائل لا يغسلون فمن راعى أن الغسل عبادة يعود ما فيها من الثواب على المغسول قال لا يغسل المشرك ومن رأى أن غسل الميت تنظيف قال يغسل المشرك وأمر النبي صلى الله عليه وسلم بغسل عمه أبي طالب وهو مشرك وأمر النبي صلى الله عليه وسلم بقتلى أحد أن يدفنوا في ثيابهم ولا يغسلون فمن رأى أن الشهيد لا يغسل لمطلق الشهادة قال لا يغسل من نص النبي صلى الله عليه وسلم أنه شهيد ومن رأى وفهم من النبي صلى الله عليه وسلم بقرينة حال إن الشهيد الذي لا يغسل هو المقتول في المعترك في حرب الكفار قال يغسل ما عداه (وصل اعتبار هذا الفصل) المقتول في سبيل الله في معترك حرب الكفار حي يرزق وإنما أمرنا بغسل الميت وهذا الشهيد الخاص لا يقال فيه إنه ميت ولا يحسب أنه ميت بل هو حي بالخبر الإلهي الصدق الذي لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه ولكن الله أخذ بأبصارنا عن إدراك الحياة القائمة به كما أخذ بأبصارنا عن إدراك أشياء كثيرة كما أخذ أيضا بأسماعنا عن إدراك تسبيح النبات والحيوان والجماد وكل شئ قال الله تعالى ولا تحسبن الذين قتلوا في سبيل الله أمواتا بل أحياء عند ربهم يرزقون وقال تعالى ولا تقولوا لمن يقتل في سبيل الله أموات بل أحياء ولكن لا تشعرون بحياتهم كما يحيي الميت عند السؤال ونحن نراه من حيث لا تشعر ونعلم قطعا أنه يسأل ولا يسأل إلا من يعقل ولا يعقل إلا من هو موصوف بالحياة فنهينا أن نقول فيهم أموات وأخبرنا أنهم أحياء ولكن لا نشعر وما ورد مثل هذا في من لم يقتل في سبيل الله فهو ميت وإن كان شهيدا أو هو حي مثله وما أخبرنا بذلك الشهيد هو الحاضر عند الله ولهذا قال عند ربهم وإنما يغسل الميت ويطهر ليحضر عند ربه طاهرا فيلقاه في البرزخ بعد الموت على طهارة مشروعة وهذا الشهيد حاضر عند ربه بمجرد الشهادة التي هي القتل في سبيل الله فإنه لا يغسل وهو عند ربه (وصل في اعتبار غسل المشرك) وهو القاتل بالأسباب بالركون إليها والاعتماد عليها والاعتقاد بأن الله يفعل الأشياء بها لا عندها وذلك لعدم علمه لضعف نفسه واضطراب إيمانه كما يضطرب في صدق وعده تبارك وتعالى في الرزق مع قسمه سبحانه عليه لعباده فقال فورب السماء والأرض إنه لحق مثل ما أنكم تنطقون فهذا ضرب من الشرك الصريح لا الخفي لغلبة الطبع عليه في مألوف العادة قال بعضهم موبخا لمن اضطرب إيمانه وترضى بصراف وإن كان مشركا * ضيمنا ولا ترضى بربك ضامنا فيجب على العلماء بالله طهارة قلب هذا الميت وغسله باليقين والطمأنينة حتى يتنظف قلبه فيجب غسل المشرك ومن رأى أن مثل هذا الشرك لا يقدح في الايمان بالرزق ويقول إنما اضطرب بالطبع لكون الحق ما عين الوقت ولا المقدار منه فاعلم إن الله بحكمته قد ربط المسببات بالأسباب وأن ذلك الاضطراب ما هو عن تهمة من المؤمن في حق الله وأنه ربما لا يرزقه وإنما ذلك الاضطراب اضطراب البشرية والإحساس بألم الفقد وعدم الصبر فإن الله قد أعلمه أنه يرزقه ولا بد سواء كان كافرا أو مؤمنا لكونه حيوانا فقال تعالى وما من دابة في الأرض إلا على الله رزقها ولكن ما قال له متى ولا من أين فما عين الزمان ولا السبب بل أعلمه أنه لن تموت نفس حتى تستكمل رزقها فما يدري عند فقد السبب المعتاد لحصول الرزق عند وجوده هل فرع وجاء أجله أم لا فيكون فزعه واضطرابه من الموت فإن الموت فزع إما للمؤمن فلما قدم من إساءة وإما للعارف فللحياء من الله عند القدوم عليه والكافر لفقد المألوفات فالصورة في الخوف واحدة والأسباب مختلفة ومن لم يمت بالسيف مات بغيره * تنوعت الأسباب والداء واحد وإن كان لم يفرع رزقه في علم الله فيكون اضطرابه لجهله بوقت حصول الرزق كما قدمنا بانقطاع السبب فيخاف من طول المدة وألم الجوع المتوقع والحاجة الداعية له إلى الوقوف فيه لمن لا يسهل عليه الوقوف بين يديه في ذلك لعزة نفسه عنده وقد كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يتعوذ من الجوع ويقول إنه بئس الضجيع فإنه بلاء من الله يحتاج من قام به
(٥٢١)