(بسم الله الرحمن الرحيم) (مقدمة الكتاب) قلنا وربما وقع عندي أن أجعل في هذا الكتاب أو لا فصلا في العقائد المؤيدة بالأدلة القاطعة والبراهين الساطعة ثم رأيت أن ذلك تشغيب على المتأهب الطالب للمزيد المتعرض لنفحات الجود بأسرار الوجود فإن المتأهب إذا لزم الخلوة والذكر وفرع المحل من الفكر وقعد فقيرا لا شئ له عند باب ربه حينئذ يمنحه الله تعالى ويعطيه من العلم به والأسرار الإلهية والمعارف الربانية التي أثنى الله سبحانه بها على عبده خضر فقال عبدا من عبادنا آتيناه رحمة من عندنا وعلمناه من لدنا علما وقال تعالى واتقوا الله ويعلمكم الله وقال إن تتقوا الله يجعل لكم فرقانا وقال ويجعل لكم نورا تمشون به قيل للجنيد بما نلت ما نلت فقال بجلوسي تحت تلك الدرجة ثلاثين سنة وقال أبو يزيد أخذتم علمكم ميتا عن ميت وأخذنا علمنا عن الحي الذي لا يموت فيحصل لصاحب الهمة في الخلوة مع الله وبه جلت هبته وعظمت منته من العلوم ما يغيب عندها كل متكلم على البسيطة بل كل صاحب نظر وبرهان ليست له هذه الحالة فإنها وراء النظر العقلي إذ كانت العلوم على ثلاث مراتب (علم العقل) وهو كل علم يحصل لك ضرورة أو عقيب نظر في دليل بشرط العثور على وجه ذلك الدليل وشبهه من جنسه في عالم الفكر الذي يجمع ويختص بهذا الفن من العلوم ولهذا يقولون في النظر منه صحيح ومنه فاسد (والعلم الثاني) علم الأحوال ولا سبيل إليها إلا بالذوق فلا يقدر عاقل على أن يحدها ولا يقيم على معرفتها دليلا كالعلم بحلاوة العسل ومرارة الصبر ولذة الجماع والعشق والوجد والشوق وما شاكل هذا النوع من العلوم فهذه علوم من المحال أن يعلمها أحد إلا بأن يتصف بها ويذوقها وشبهها من جنسها في أهل الذوق كمن يغلب على محل طعمه المرة الصفراء فيجد العسل مرا وليس كذلك فإن الذي باشر محل الطعم إنما هو المرة الصفراء (والعلم الثالث) علوم الأسرار وهو العلم الذي فوق طور العقل وهو علم نفث روح القدس في الروع يختص به النبي والولي وهو نوعان نوع منه يدرك بالعقل كالعلم الأول من هذه الأقسام لكن هذا العالم به لم يحصل له عن نظر ولكن مرتبة هذا العلم أعطت هذا والنوع الآخر على ضربين ضرب منه يلتحق بالعلم الثاني لكن حاله أشرف والضرب الآخر من علوم الأخبار وهي التي بدخلها الصدق والكذب إلا أن يكون المخبر به قد ثبت صدقه عند المخبر وعصمته فيما يخبر به ويقوله كإخبار الأنبياء صلوات الله عليهم عن الله كإخبارهم بالجنة وما فيها فقوله إن ثم جنة من علم الخبر وقوله في القيامة إن فيها حوضا أحلى من العسل من علم الأحوال وهو علم الذوق وقوله كان الله ولا شئ معه ومثله من علوم العقل المدركة بالنظر فهذا الصنف الثالث الذي هو علم الأسرار العالم به يعلم العلوم كلها ويستغرقها وليس صاحب تلك العلوم كذلك فلا علم أشرف من هذا العلم المحيط الحاوي على جميع المعلومات وما بقي إلا أن يكون المخبر به صادقا عند السامعين له معصوما هذا شرطه عند العامة وأما العاقل اللبيب الناصح نفسه فلا يرمي به ولكن يقول هذا جائز عندي أن يكون صدقا أو كذبا وكذلك ينبغي لكل عاقل إذا أتاه بهذه العلوم غير المعصوم وإن كان صادقا في نفس الأمر فيما أخبر به ولكن كما لا يلزم هذا السامع له صدقه لا يلزمه تكذيبه ولكن يتوقف وإن صدقه لم يضره لأنه أتى في خبره بما لا تحيله العقول بل بما تجوزه أو تقف عنده ولا يهد ركنا من أركان الشريعة ولا يبطل أصلا من أصولها فإذا أتى بأمر جوزه العقل وسكت عنه الشارع فلا ينبغي لنا أن نرده أصلا ونحن مخيرون في قبوله فإن كانت حالة المخبر به تقتضي العدالة لم يضرنا قبوله كما نقبل شهادته ونحكم بها في الأموال والأرواح وإن كان غير عدل في علمنا فننظر فإن كان الذي أخبر به حقا بوجه ما عندنا من الوجوه المصححة قبلناه وإلا تركناه في باب الجائزات ولم نتكلم في قائله بشئ فإنها شهادة مكتوبة نسأل عنها قال تعالى ستكتب شهادتهم ويسألون وأنا أولى من نصح نفسه في ذلك ولو لم يأت هذا المخبر إلا بما جاء به المعصوم فهو حاك لنا ما عندنا من رواية عنه فلا فائدة زادها عندنا بخبره وإنما يأتون رضي الله عنهم بأسرار وحكم من أسرار الشريعة مما هي خارجة عن قوة الفكر والكسب ولا تنال أبدا إلا بالمشاهدة والإلهام وما شاكل هذه الطرق ومن هنا تكون الفائدة
(٣١)