ذقته من نفسي وأعطانيه ربي بحمد الله وعدني بالشفاعة يوم القيامة فيمن أدركه بصري ممن أعرف ومن لا أعرف وعين لي هذا المشهد حتى عاينته ذوقا صحيحا لا أشك فيه وهذا مذهب شيخنا أيضا أبي إسحاق بن طريف وهو من أكبر من لقيته ولقد سمعت هذا الشيخ يوما وأنا عنده بمنزله بالجزيرة الخضراء سنة تسع وثمانين وخمسمائة وقال لي يا أخي والله ما أرى الناس في حق إلا أولياء عن آخرهم ممن يعرفني قلت له كيف تقول يا أبا إسحاق فقال إن الناس الذين رأوني أو سمعوا بي إما أن يقولوا في حقي خيرا أو يقولوا ضد ذلك فمن قال في حقي خيرا وأثنى علي فما وصفني إلا بصفته فلو لا ما هو أهل ومحل لتلك الصفة ما وصفني بها فهذا عندي من أولياء الله تعالى ومن قال في شرا فهو عندي ولي أطلعه الله على حالي فإنه صاحب فراسة وكشف ناظر بنور الله فهو عندي ولي فلا أرى يا أخي الأولياء لله وما قال لي هذا إلا من أجل كلام جرى بيني وبينه في حق إنسان من أهل سبتة كان خلف هذا الشيخ بخلاف ما كان يلقاه به فهذا بلغ من حسن اعتقاده وكان من الشيوخ الذين تحسب عليهم أنفاسهم ويعاقبون على غفلاتهم ومات في عقوبة غفلة ذكرناها في الدرة الفاخرة عند ذكري إياه فيها وأما من فرق بين النذر والصوم المفروض فإن النذر أوجبه الله عليه بإيجابه والصوم المفروض الذي هو رمضان أوجبه الله عليه ابتداء من غير إيجاب العبد فلما كان للعبد في واجب النذر تعمل بإيجابه صام عنه وليه لأنه عن وجوب عبد فينوب عنه في ذلك عبد مثله حتى تبرأ ذمته والصوم المفروض ابتداء لم يكن للعبد فيه تعمل فالذي فرضه عليه هو الذي أماته فلو تركه صامه فكانت الدية على القاتل وقال تعالى فيمن خرج مهاجرا إلى الله ثم يدركه الموت فقد وقع أجره على الله فالذي فرق كان فقيه النفس سديد النظر علاما بالحقائق وهكذا حكمه في الاعتبار (وصل في فصل المرضع والحامل إذا أفطرتا ما ذا عليهما) فمن قائل يطعمان ولا قضاء عليهما وبه أقول فإنه نص القرآن والآية عندي مخصصة غير منسوخة في حق الحامل والمرضع والشيخ والعجوز ومن قائل تقضيان فقط ولا إطعام عليهما ومن قائل تقضيان وتطعمان ومن قائل الحامل تقضي ولا تطعم والمرضع تقضي وتطعم والإطعام مد عن كل يوم أو تحفن حفانا ويطعم كما كان أنس يصنعه (الاعتبار) الحامل الذي يملكه الحال والمرضع الساعي في حق الغير يتعين عليهما حق من حقوق الله فمن رأى أن الدين قبل الوصية قدم حق الغير على حق الله لمسيس الحاجة فإنه حكم الوقت ومن قدم حق الله على حق الغير ورأى قول النبي صلى الله عليه وسلم إن حق الله أحق بالقضاء ورأى أن الله قدم في القرآن الوصية على الدين في آية المواريث فقدم حق الله وإليه أذهب قال تعالى من بعد وصية يوصى بها أو دين ويرجح عندي حق الغرماء إذا لم يف ما بقي لهم من مال هذا الميت في بيت المال يؤديه عنه السلطان من الصدقات فإنهم من الثمانية الأصناف فلصاحب الدين أمر يرجع إليه في دينه وليس للوصية ذلك فوجب تقديمها بلا شك عند المنصف وأما المرضع وإن كانت في حق الغير فحق الغير من حقوق الله حيث شرع الله أداءها وصاحب الحال ليس في حق من حقوق الله لأنه غير مكلف في وقت الحال والمرضع كالساعي في حق الغير فهو في حق الله فإنه في أمر مشروع له فقد وكلناك بعد هذا البيان والتفصيل إلى نفسك في النظر فيمن ينبغي له القضاء والإطعام أو أحدهما ممن ذكرنا (وصل في فصل الشيخ والعجوز) أجمع العلماء على أنهما إذا لم يقدرا على الصوم أن يفطرا واختلفوا إذا أفطر أهل يطعمان أو لا يطعمان فقال قوم يطعمان وقال قوم لا يطعمان وبه أقول غير أنهم استحبوا لهم الإطعام والذي أقول به إن الإطعام إنما شرع مع الطاقة على الصوم وأما من لا يطيقه فقد سقط عنه التكليف في ذلك وليس في الشرع إطعام من هذه صفته من عدم القدرة عليه فإن الله ما كلف نفسا إلا وسعها وما كلفها الإطعام فلو كلفها مع عدم القدرة لم نعدل عنه وقلنا به (الاعتبار) من كان مشهده أن لا قدرة له كأمثالنا أو يقول إن القدرة الحادثة ما لها أثر إيجاد في المقدور وكان مشهده أن الصوم لله فقد انتفى عنه الحكم بالصوم والإطعام يقول الله وهو يطعم ولا يطعم وقال مصدقا لخليله الذي يطعمني فقرره ولم يرده والإطعام إنما هو عوض عن واجب يقدر عليه ولا واجب فلا عوض فلا إطعام وهجير صاحب هذا المقام لا قوة إلا بالله
(٦١٧)