يلطف البرزخ صورتها حتى يقبلها عالم الغيب وكذلك برزخ الفجر وهو خروج عالم الغيب إلى عالم الشهادة والحس فلا بد أن يمر ببرزخ الخيال وهو وقت صلاة الصبح من طلوع الفجر إلى طلوع الشمس فما هو من عالم الغيب ولا من عالم الشهادة فيأخذ البرزخ الذي هو الخيال المعبر عنه بوقت الفجر إلى طلوع الشمس المعاني المجردة المعقولة التي لها الليل فيكثفها الخيال في برزخه فإذا كساها كثافة من تخيله بعد لطافتها حينئذ وقعت المناسبة بينها وبين عالم الحس فتظهر صورة كثيفة في الحس بعد ما كانت صورة روحانية لطيفة غيبية فهذا من أثر البرزخ يرد المعقول محسوسا في آخر الليل ويرد المحسوس معقولا في أول الليل مثاله أن لصورة الدار في العقل صورة لطيفة معقولة إذا نظر إليها الخيال صورها بقوته وفصلها وكثفها عن لطافتها في العقل ثم صرف الجوارح في بنائها بجمع اللبن والطين والجص وجميع ما نحيله البناء المهندس فأقامها في الحس صورة كثيفة يشهدها البصر بعد ما كانت معقولة لطيفة تتشكل في أي صورة شاءت فزالت عنها في الحس تلك القوة بما حصل لها من التقييد فتبقى النهار كله مقيدة بتلك الصورة على قدر طول النهار فإن كان النهار لا انقضاء له كيوم الدار الآخرة فتكون الصورة لا ينتهي أمدها وإن كان أنهار ينقضي كيوم الدنيا وأيامها متفاضلة فيوم من أربع وعشرين ساعة ويوم من شهر ويوم من سنة ويوم من ثلاثين سنة ودون ذلك وفوق ذلك فتبقى الصورة مقيدة بتلك المدة طول يومها وهو المعبر عنه بعمرها إلى الأجل المسمى إلى أن يجيئ وقت المغرب فيلطف البرزخ صورتها وينقلها من عالم الحس ويؤديها إلى عالم العقل فترجع إلى لطافتها من حيث جاءت هكذا حركة هذا الدولاب الدائر فإن فهمت وعقلت هذه المعاني التي أوضحنا لك أسرارها علمت علم الدنيا وعلم الموت وعلم الآخرة والأزمنة المختصة بكل محل وأحكامها والله يفهمنا وإياك حكمه ويجعلنا ممن ثبت في معرفته قدمه فالليل ثلاثة أثلاث والإنسان ثلاثة عوالم عالم الحس وهو الثلث الأول وعالم خياله وهو الثاني وعالم معناه وهو الثلث الآخر من ليل نشأته وفيه ينزل الحق وهو قوله وسعني قلب عبدي وقوله إن الله لا ينظر إلى صوركم وهو الثلث الأول ولا إلى أعمالكم وهو الثلث الثاني ولكن ينظر إلى قلوبكم وهو الثلث الآخر فقد عم الليل كله فمن قال إن آخر الوقت الثلث الأول فباعتبار ثلث الحس ومن قال آخره إلى نصف الليل وهو وسط الثلث الثاني فباعتبار الثلث الثاني وهو عالم خياله لأنه محل العمل في التلطيف أو التكثيف ومن قال إلى طلوع الفجر فباعتبار عالم المعنى من الإنسان وكل قائل بحسب ما ظهر له وقد وقع الإجماع بطلوع الفجر أنه يخرج وقت صلاة العشاء فالظاهر أن آخر الوقت إلى طلوع الفجر لمحل الإجماع والاتفاق على خروج الوقت بطلوع الفجر وبقولنا يقول ابن عباس إن آخر وقتها إلى طلوع الفجر (فصل بل وصل في وقت صلاة الصبح) اتفق الجميع على إن أول وقت الصبح طلوع الفجر وآخره طلوع الشمس واختلفوا في وقتها المختار فمن قائل إن الأسفار بها أفضل ومن قائل إن التغليس بها أفضل وبه أقول (الاعتبار في الباطن في ذلك) اعلم أنه من غلب على فهمه من قوله صلى الله عليه وسلم وقول الله تعالى في رؤية الله إن ذلك راجع إلى العلم والعقل لا إلى البصر وبه قال جماعة من العقلاء النظار من أهل السنة فهم بمنزلة من يرى التغليس ومن غلب على فهمه مما ورد في الشرع من الرؤية أن ذلك بالبصر وأنه لا يقدح في الجناب الإلهي وأن الجهة لا تقيد البصر وإنما تقيد الجارحة فهو بمنزلة من يرى الأسفار بصلاة الصبح بحيث أن يبقى لطلوع الشمس قدر ركعة أو يسلم مع ظهور حاجب الشمس والعجب من هذا أن الذي ذهب إلى أن الرؤية الواردة في الشرع محمولة على العلم لا على البصر يرى الأسفار بالصبح وأن الأكثر من الذين يرون أن الرؤية لواردة في الشرع يوم القيامة محمولة على البصر لا على العلم يرون التغليس بالصبح فهذا أحسن وجه في اعتبار هذا الوقت وأعمه وأعلاه وله اعتبارات غير هذا ولكن يجمعها كلها ما ذكرناه ولا يجمع تلك الاعتبارات التي تركناها حقيقة هذا الاعتبار الذي ذكرناه فلهذا اقتصرنا عليه والله يقول الحق وهو يهدي السبيل انتهى الجزء السادس والثلاثون
(٣٩٦)