وهم أهل مكة وما هو أقصى من أهله بل هو الأقرب وهو أيضا قصي من الأولية لأن البيت الذي هو الكعبة قد حاز الأولية وبين الأقصى وبينه أربعون سنة وهو حد زمان التيه لقوم موسى عن دخول المسجد الأقصى لما كان في عين القرب وهو مرتبة الأولية التي للمسجد الحرام فأبوا نصرة نبيه موسى وقالوا له اذهب أنت وربك فقاتلا إنا ههنا قاعدون فقال لهم إني تارككم تائهين في هذه القعدة أربعين سنة لا تستطيعون دخول بيت المقدس كما لم يكن ظهوره للعبادة بعد المسجد الحرام إلا بعد أربعين سنة وما بقي معهم موسى عليه السلام في التيه إلا لكونه رسولا إليهم فبقوا حيارى لا هم في عين القرب من الأولية ولا حصل لهم غرضهم في دخول بيت المقدس وما أخذهم الله إلا بظاهر قولهم إنا ههنا قاعدون فاحذر أن تكون من قوم موسى الذين صفتهم هذا بل كن من قوم موسى الذين هم أمة يقضون بالحق وبه يعدلون كذلك مقام النبوة من مقام الولادة بينهما من التوقيت الزماني أربعون سنة فما بعث نبي إلا من أربعين سنة فإنه غاية استحكام العقل وقوة سلطانه وابتداء ضعف الطبيعة ثم يمشي بحكمه فيما بقي من عمره في وفور من عقله ونقص من طبيعته فمن أحرم من المقام إلا بعد يطلب المقام إلا قرب وكلاهما معبد كان المحرم برزخا بينهما وكان المعبدان طرفيه فما لم يصل إليه هو ما تأخر من ذنبه وما تقدم عنه هو ما تقدم من ذنبه فيغفر له ما بين المسجدين والغفر الستر فوجبت له الجنة لأنها ستر عن النار لمن دخل فيها وذاته ستر على نار شهواته فباطن الجنة نار محرقة لأن الشهوة من الإنسان متحكمة فيها وهي نار طبيعته بلا شك فما زال العبد السعيد مكتفنا بالستر في التقدم أن لا تصيبه عقوبة الذنب وفي التأخر اكتنف بستر الحفظ والعصمة أن لا يصيبه الذنب فهو ممن وجبت له الجنة إذا كان هذا حكمه فهو مستور في كنف الله فهو في الجنة وإن كان في الدنيا (حديث عشرون في التنعيم إنه ميقات أهل مكة) من مراسل أبي داود عن ابن عباس قال وقت رسول الله صلى الله عليه وسلم لأهل مكة التنعيم كيف لا يكون ميقاتهم التنعيم وهم جيران الله وأهل بيته وهم أقرب الخلق إلى أولية المعابد فيتجلى لهم الحق في اسمه الأول ولا يحصل هذا التجلي إلا لأهل الحرم وفيه يتفاضلون بحكم الأهلية فإنهم بين عصبة وأصحاب سهام ولا يحصل هذا التجلي لغيرهم ممن جاور غيره من البيوت المضافة إلى الله وكل من كان فيه وفارقه فإنما حكمه حكم المسافر وإليه ينسب لا إلى غيره كهجرة النبي صلى الله عليه وسلم ومن هاجر منه إلى المدينة قبل الفتح فأثبت لهم جوار الله لما وجدوا اسم المهاجرين وإنما وقع هذا الاسم لأمور عرضية والبيت لله على أصله من الحرمة والتحريم عند الفريقين فأهل مكة بحكم الأصل مكيون جيران الله في حرمه وهم عرب لهم حفظ الجار ومراعاة الجوار والحق يعامل عباده بما تواطئوا عليه في أخلاقهم (إليهم يحج الخلق من كل جانب) يقولون حج العبد والعبد لم يحج * وما حج إلا من له الفعل والأمر وما ثم إلا الله ما ثم غيره * فمنه العطاء الجزل والنائل الغمر وإذا كان المكي في غير مكة لا يزول عنه اسم الأهلية كما إن الأفاقي إذا كان بمكة لا يزول عنه اسم الجار كما أنا وإن حزنا بخلقنا الصورة الربانية فنحن بحكم الأصل عبيد عبودية لا حرية فيها فما نحن سادة ولا أرباب فمراعاة الأصول هي المرجوع إليها وإليه يرجع الأمر كله فهو الأصل فافهم هذه الآية فهم حفي بها خابر ولا أثر لما يقدح في الأصل من العوارض فإن ذلك ليس قادحا في نفس الأمر (حديث حادي وعشرين في تغيير ثوبي الإحرام) ذكر أبو داود عن عكرمة أن النبي صلى الله عليه وسلم غير ثوبيه بالتنعيم وهو محرم هذا من المراسيل اعتباره تغيير حال الشدة بالرخاء وذلك من كان حاله البلاء الذي يوجب للمؤمن الصبر عليه والرضي به لكونه من عند الله تعالى فتجده عند هذا البلاء شاكرا فقد عامل البلاء بما لا يستحقه (وهذه مسألة) أغفلها أيضا أصحابنا وغلطوا في تحقيقها والعبارة عنها واحتجوا في ذلك بما قاله أبو يزيد البسطامي الأكبر وهو
(٧٤٥)