(وصل في فصل من وقف بعرنة من عرفة فإنه منها) اختلف العلماء فيمن وقف بعرنة بعرفة فإنه من عرفة فقيل حجه نام وعليه دم وقال بعضهم لا حج له عرنة من عرفة موقف إبليس فإن إبليس يحج في كل سنة وذلك موقفه يبكي على ما فاته من طاعة ربه وهو مجبور في الإغواء وإن كان من اختياره إبرار القسمة بربه فإنه وإن سبق له الشقاء فله شبهة يستند إليها في امتثاله أمر سيده بعد أن حقت الكلمة كلمة العذاب عليه بقوله تعالى قال اذهب واستفزز وأجلب وعدهم فإنه يجد لذلك تنفيسا ومع هذا فإنه يحزن لما يرى من المغفرة التي حصلت لأهل عرفة الشاملة لهم وهو فيها أعني بعرفة فلا بد له عند نفسه من طرف منها يناله من عين المنة الإلهية ولو بعد حين هذا ظنه بربه وأما خروجه من جهنم فلا سبيل إليه لأنه وأتباعه من المشركين الذين هم أهل النار يملأ الله بهم جهنم ولا نقص فيها بعد ملئها فلا خروج وأمر الله الحاج أن يرتفع عن موقف إبليس فإنه موقف البعد فإبليس تحت حكم الاسم البعيد وأهل عرفة تحت حكم الاسم القريب فما برحوا من حكم الأسماء فحج من وقف بعرنة لكونه من عرفات تام إلا أنه ناقص الفضيلة كما بينا في الدفع قبل الإمام فعرنة موضع مكروه للوقوف به من أجل مشاركة الشيطان ألا ترى النبي صلى الله عليه وسلم ارتفع في ذلك عن بطن الوادي الذي فاتته فيه صلاة الصبح فعلل وقال إنه وأدبه شيطان لأنه هو الذي هدأ بلالا حتى نام عن مراقبة الفجر وقد ورد في الحديث أن الشيطان يعقد على قافية رأس أحدكم إذا هو نام ثلاث عقد يضرب مكان كل عقدة عليك ليل طويل فارقد الحديث فما أراد صلى الله عليه وسلم بارتفاعه عن بطن عرنة إلا البعد من مجاورة الشيطان ولو صلى في ذلك الموضع أجزأه أعني الموضع الذي أصابته فيه الفتنة ففارق الموضع مفارقة تنزيه لا مفارقة تحريم ولما كان لإبليس طرف من المعرفة لذلك لم تطرده الملائكة عن عرنة بل وقف فيها غير إن الناس انعزلوا عنه في ناحية منها لانعزال إمامهم وعرفات كلها موقف وعرنة من عرفات فأمرنا بالارتفاع عن بطن عرنة لما ذكرناه ومن حمل هذا الأمر على الوجوب أبطل الحج ولا تكون الإفاضة للحاج إلا من بطن عرنة فإن حد المزدلفة حرف الوادي الذي هو عرنة وقال تعالى فإذا أفضتم من عرفات ولم يخص مكانا من مكان بل الخروج عنها بالكلية إلى المزدلفة وقد علمنا إن الله يغفر لأهل الموقف من الحاج وغيرهم ورحمة الله وسعت كل شئ فالتقييد ما هو من صفة من له الوجود المطلق فبرحمة الله يحيا ويرزق كل موجود سوى الله فالرحمة شاملة وهي في كل موطن تعطي بحسب ذلك الموطن فأثرها في النار بخلاف أثرها في الجنة والله الموفق لا رب غيره (وصل في فصل المزدلفة) أجمع العلماء على أنه من بات بالمزدلفة وصلى فيها المغرب والعشاء وصلى الصبح يوم النحر ووقف بعد الصلاة إلى أن أسفر ثم دفع إلى من أن حجه تام واختلفوا هل الوقوف بها بعد صلاة الصبح والمبيت بها من سنن الحج أو فروضه فقال جماعة هو من فروض الحج ومن فاته فعليه الحج من قابل والهدى وقال بعضهم من فاته الوقوف بها والمبيت فعليه دم وقال بعضهم إن لم يصل بها الصبح فعليه دم المزدلفة اسم قرب والعمل فيها قربة فمن فاته صفة القرب في محل القرب فما حج فإن الحج نشأة كاملة من هذه الأفعال كلها فهي له كالصفات النفسية للموصوف إذا زال واحد منها بطل كون ذلك الموصوف وهكذا كل عبادة تقوم من أشياء مختلفة بمجموعها تصح تلك العبادة وهي المعبر عنها بأركانها فتسمى في العبادة ركنا وتسمى في الذوات والأعيان صفة نفسية غير إن النشآت وإن كانت لها صفات نفسية هي التي تحفظ على ذلك الشئ عينه لها أيضا لوازم وهي التي توجد في الحدود الرسمية وهي لا تنفك عن الموصوف بها فمن يرى أن الموصوف لا ينفك عنها كالضحك للإنسان أشبهت الصفة النفسية قال ببطلان الملزوم لعدم اللازم ومن قال يصح حد الشئ الذاتي دون هذا اللازم قال لا يكون للشئ حكم البطلان مع ارتفاع اللازم في الذهن وإن لم يرتفع في الوجود ولما سماه الله المشعر الحرام لنشعر بالقبول من الله في هذه العبادة بالعناية والمغفرة وضمان التبعات ووصفه بالحرمة لأنه في الحرم فيحرم فيه ما يحرم في الحرم كله فإنه من جملته فأمر بذكر الله فيه يعني بما ذكرناه فإن الشئ لا يذكر بأن يسمى وإنما يذكر بما يكون عليه من صفات المحمدة فإن الأسماء في أصل الوضع إنما هي أعلام للمسمى بها لا نعوت
(٧١٨)