لكونه جعل محرما فمنع من أمور كثيرة كان يفعلها في زمان حله فجبره بإزالة الستر الذي يقتضي التحجير حتى لا يجمع عليه تحجيرين الستر والإحرام (حديث سادس عشر إحرام المرأة في وجهها) ذكر الدارقطني عن ابن عمر أن النبي صلى الله عليه وسلم قال ليس على المرأة إحرام إلا في وجهها رجوع إلى الأصل فإن الأصل أن لا حجاب ولا ستر والأصل ثبوت العين لا وجودها ولم تزل بهذا النعت موصوفة وبقبولها سماع الخطاب إذا خوطبت منعوتة فهي مستعدة لقبول نعت الوجود مسارعة لمشاهدة المعبود فلما قال لها في حال عدمها كن كانت فبانت بنفسها وما بانت فوجدت غير محجور عليها في صورة موجدها ذليلة في عز مشهدها لا تدري ما الحجاب ولا تعرفه فلما بانت المراتب للأعيان وأثرت الطبيعة الشح في الحيوان ووفره في حقيقة نفس الإنسان لما ركبه الله عليه في نشأته من وفور العقل وتحكيم القوي الروحانية والحسية منه انجرت الغيرة المصاحبة للشح الطبيعي فكان أكثر الحيوان غيرة لأن سلطان الشح والوهم فيه أقوى مما في سواه والعقل ليس بينه وبين الغيرة مناسبة في الحقيقة ولهذا خلقه الله في الإنسان لدفع سلطان الشهوة والهوى الموجبين لحكم الغيرة فيه فإن الغيرة من مشاهدة الغير المماثل المزاحم له فيما يروم تحصيله أو هو حاصل له من الأمور التي إذا ظفر بها واحد لم تكن عند غيره وقد جبله الله على الحرص والطمع أن يكون كل شئ له وتحت حكمه لإظهار حكم سلطان الصورة التي خلق عليها فإن من حقيقتها أن يكون كل شئ تحت سلطانها حتى إن بعض الناس أرسل حكم غيرته فيما لا ينبغي أن يرسلها فغار على الله وما خلق وما كلف إلا أن يغار لله لا على الله فبهذا بلغ من العبد سلطان استحكامها في الإنسان فألحقته بالجاهلين والعقل الكامل يعلم أنه خلق لربه لا لغيره وعلم بذاته أن من خلقه لا يمكن أن يزاحمه في أمر ولا يعارضه في حكم فيقول هو هو على ما هو عليه في نفسه فليس كمثله شئ وأنا أنا على ما أنا عليه في نفسي ولي أمثال من جنسي فليس له فيما أنا عليه قدم إلا التحكم وليس لي فيما هو عليه إلا قبول الحكم فلا مزاحمة ولا غيرة فالإنسان بما هو عاقل إن كان تحت سلطان عقله فلا يغار لأنه ما خلق إلا لله والله لا يغار عليه فإذا غار العاقل فإنما يغار من حيث إيمانه فهو يغار لله ولها موطن مخصوص شرعه له لا تعداه فكل غيرة تتعدى ذلك الحد فهي خارجة عن حكم العقل منبعثة عن شح الطبيعة وحكم الهوى حتى إن بعض الناس يرى أمورا قد أباحها الشرع يجد في نفسه أن لو كان له الحكم فيها لحجرها وحرمها فيرجح نظره في مثل هذا على ما أباح الله فعله ويرى أنه في رأيه أرجح من الله ميزانا ومن رسوله صلى الله عليه وسلم في هذا الذي خطر له وربما يغتاظ حتى يقول أي شئ أصنع هذا شئ قد أباحه الله فلنصبر على ذلك فيصبر على كره وحنق في نفسه على ربه فهو في هدنة على دخن وهذا أعظم ما يكون من سوء الأدب مع الله وهو ممن أضله الله على علم وقد ظهر مثل هذا في الزمان الأول في آحاد الناس وأما اليوم فهو فاش في الناس كلهم فنحن نعلم أن الشارع هو الله وأن الرسول شخص مبلغ عن الله حكمه فيما أراه الله لا ينطق عن هوى نفسه إن هو إلا وحي يوحى والله يقول عن نفسه وما كان ربك نسيا ودل عليه دليل العقل والله أشد غيرة من عباده وما قرر من الشرائع إلا ما تقع به المصلحة في العالم فلا يزاد فيها ولا ينقص منها ومهما زاد فيها أو نقص منها أو لم يعمل بما قرره فقد اختل نظام المصلحة المقصودة لله فيما نزله من الشرائع وقرره من الأحكام فأباح الله لإمائه إتيان المساجد فرأى بعض الناس أن النبي صلى الله عليه وسلم لو رأى ما أحدث النساء بعده لمنع النساء المساجد كما منعت نساء بني إسرائيل فرأوا إن الله لم يعلم أن مثل هذا يقع من عباده إذ كان هو المشرع سبحانه لا غيره فرجحوا نظرهم على حكم الله حتى إن بعضهم كان يغار على امرأته أن تخرج إلى المسجد وكان قويا في استعمال إيمانه وكانت المرأة تحب إتيان المسجد للصلاة وكانت ذات جمال فائق ويمنعه الخبر الوارد في تحريم منع النساء من إتيان المساجد فيجد في ذلك شدة فلو قدرت أن يرد الله الحكم لهذا الشخص في هذه المسألة لرجح نظره على حكم الله ومنع النساء المساجد والجائز كالواقع فما زال يحتال عليها حتى امتنعت من نفسها من إتيان المسجد فسر بذلك فلو استحكم في هذا الرجل سلطان العقل ما غار ولو استحكم فيه سلطان الايمان ما وجد حرجا في قلبه فصبر عليه مما حكم الله به في ذلك قال
(٧٤١)