فهم مقاصد الشرع فجروا معه على مقصده وذلك من بركة الورع والاحترام الذي احترموا به الجناب الإلهي حقيقة لا مجازا فتح الله لهم بأدبهم عين الفهم في كتبه وفيما جاءت به رسله مما لا تستقل العقول بإدراكه وما تستقل لكن أخذوه عن الله لا عن نظرهم ففهموا من ذلك كله بهذه العناية ما لم يفهم من لم يتصف بهذه لصفة ولم يكن له هذا المقام ولما كان هذا حال الورعين سلكوا في أمورهم وحركاتهم مسالك العامة فلم يظهر عليهم ما يتميزون به عنهم واستتروا بالأسباب الموضوعة في العالم التي لا يقع الثناء بها على من تلبس بها فلم ينطق على هؤلاء الرجال في العموم اسم صلاح يخرجهم عن صلاح العامة ولا توكل ولا زهد ولا ورع ولا شئ مما يقع عليه اسم ثناء خاص يخرجون به عن العامة ويشار إليهم فيه مع أنهم أهل ورع وتوكل وزهد وخلق حسن وقناعة وسخاء وإيثار فأمثال هذا كله اجتنب رجال الله من هؤلاء الطبقة فسموا ورعين في اصطلاح أهل الله لأن الورع الاجتناب وتدبر ما أحسن قول من أوتي جوامع الكلم صلى الله عليه وسلم كيف قال في هذا المقام يعلم رجاله كيف يكونون فيه دع ما يريبك إلى ما لا يريبك وقال استفت قلبك وإن أفتاك المفتون فأحالهم على قلوبهم لما علم ما فيها من سر الله الحاوية عليه في تحصيل هذا المقام ففي القلوب عصمة إلهية لا يشعر بها إلا أهل المراقبة وفيه ستر لهم فإن هؤلاء الرجال لو سألوا وعرف منهم البحث والتفتيش في مثل هذا عند الناس وعند العلماء الذين سألوا في ذلك بالضرورة كان يشار إليهم ويعتقد فيهم الذين الخالص كبشر الحافي وغيره وهو من أقطاب هذا المقام عرف به وسلم له حكي أن أخت بشر الحافي سألت أحد أئمة الدين في الغزل الذي تغزله في ضوء مشاغل الظاهرية إذا مروا بها ليلا وهي على سطحها فعرفت بهذا السؤال أنها من أهل الورع ولو عملت على حديث استفت قلبك لعلمت أنها ما سألت حتى رابها فكانت تدع ذلك الغزل أو لا تغزل بعد ذلك وتترك الغزل فأفتاها الإمام المسؤول وهو أحمد بن حنبل وأثنى عليها بذلك حتى نقل إلينا وسطر في الكتب فأعطانا صلى الله عليه وسلم الميزان في قلوبنا ليكون مقامنا مستورا عن الأغيار خالصا لله مخلصا لا يعلمه إلا الله ثم صاحبه وهو قوله ألا لله الدين الخالص فكل دين وقع فيه ضرب من الاشتراك المحمود أو المذموم فما هو بالدين الخالص الذي لله إن كان الذي وقع به الاشتراك محمودا كمثلة أخت بشر الحافي وإن وقع الاشتراك بالمذموم فليس بدين أصلا فإنه ليس ثم دين إلهي يتعلق به لسان ذم فلما رأى رجال هذا المقام مراعاة النبي صلى الله عليه وسلم ما يحصل في قلب العبد مما قاله وما أحال به لإنسان على نفسه باجتنابه طلبا للتستر تعملوا في تحصيل ذلك وسلكوا عليه وعلموا إن النجاة المطلوبة من الشارع لنا إنما هي في ستر المقام فأعطاهم العمل على هذا والتحقق به الحقيقة الإلهية التي استندوا إليها في ذلك وهو اجتنابه التجلي منه سبحانه لعموم عباده في الدنيا فاقتدوا بربهم في احتجاجه عن خلقه فعلم هؤلاء الرجال أن هذه الدار دار ستر وأن الله ما اكتفى في التعريف بالدين حتى نعته بالخالص فطلبوا طريقا لا يشوبهم فيها شئ من الاشتراك حتى يعاملوا الموطن بما يستحقه أدبا وحكمة وشرعا واقتداء فاستتروا عن الخلق بحنن الورع الذي لا يشعر به وهو ظاهر الدين والعلم المعهود فإنهم لو سلكوا غير المعهود في الظاهر في العموم من الدين لتميزوا وجاء الأمر على خلاف ما قصدوه فكانت أسماؤهم أسماء العامة فهؤلاء الرجال يحمدهم الله وتحمدهم الأسماء الإلهية القدسية ويحمدهم الملائكة ويحمدهم الأنبياء والرسل ويحمدهم الحيوان والنبات والجماد وكل شئ يسبح بحمد الله وأما الثقلان فيجهلونهم إلا أهل التعريف الإلهي فإنهم يحمدونهم ولا يظهرونهم وأما غير أهل التعريف الإلهي من الثقلين فهم فيهم مثل ما هم في حق العامة يذكرونهم بحسب أغراضهم فيهم لا غير فلهم المقام المجهول في العامة أما ثناء الله عليهم فلتعملهم استخلاصهم لله فخلصوا له دينه فأثنى عليهم حيث لم يملكهم كون ولا حكم على عبوديتهم رب غير الله وأما ثناء الأسماء الإلهية عليهم فكونهم تلقوها وعلموا تأثيرها وما أثروا بها في كون من الأكوان فيذكرون بذلك الأمر الذي هو لذلك الاسم الإلهي فيكون حجابا على ذلك الاسم فلما لم يفعلوا ذلك وأضافوا الأثر الصادر على أيديهم للاسم الإلهي الذي هو صاحب الأثر على الحقيقة حمدتهم الأسماء الإلهية بأجمعها وأما ثناء الملائكة فلأنهم ما زاحموهم فيما نسبوه إلى أنفسهم بالنسبة لا بالفعل في قولهم نحن نسبح بحمدك ونقدس لك فقال هؤلاء الرجال لا حول ولا قوة إلا بك فلم يدعوا في شئ مما هم علمه من
(٢٤٦)