فما فرض الله الزكاة وأوجبها وطهر بها النفوس من البخل والشح إلا لهذا الأمر المحقق فالفرض منها أشد على النفس من صدقة التطوع للجبر الذي في الفرض والاختيار الذي في التطوع فإنه في الفرض عبد بحكم سيد وفي الاختيار لنفسه إن شاء وإن شاء (وصل في فصل الادخار من شح النفس وبخلها) اعلم أنه من شح النفس الادخار والشبهة لها إلى وقت الحاجة فإذا تعين المحتاج كان العطاء وعلى هذا أكثر بعض نفوس الصالحين وأما العامة فلا كلام لنا معهم وإنما نتكلم مع أهل الله على طبقاتهم والقليل من أهل الله من يطلب على أهل الحاجة حتى يوصل إليهم ما بيده فرضا كان أو تطوعا فالفرض من ذلك قد عين الله أصنافه ورتبه على نصاب وزمان معين والتطوع من ذلك لا يقف عند شئ فإن التطوع إعطاء ربوبية فلا يتقيد والفرض إعطاء عبودية فهو بحسب ما يرسم له سيده وإعطاء العبودية أفضل فإن الفرض أفضل من النفل وأين عبودية الاضطرار من عبودية الاختيار وهذا الصنف قليل في الصالحين وشبهتهم أنا لم نكلف الطلب عليهم والمحتاج هو الطالب فإذا تعين لي بالحال أو بالسؤال أعطيته والذين هم فوق هذه الطبقة التي تعطي على حد الاستحقاق فهم أيضا أعلى من هؤلاء وهم الذين يعطون ما بأيديهم كرما إلهيا وتخلقا فيعطون المستحق وغير المستحق وهو عندنا من جهة الحقيقة الآخذ مستحق لأنه ما أخذ إلا بصفة لفقر والحاجة لا بغيرها سواء كانت الأعطية ما كانت من هدية أو وهب أو غير ذلك من أصناف العطايا كالتاجر الغني صاحب الآلاف يجوف القفار ويركب البحار ويقاسي الأخطار ويتغرب عن الأهل والولد ويعرض بنفسه وبماله للتلف في أسفاره وذلك لطلب درهم زائد على ما عنده فحكمت عليه صفة الفقر وأعمته عن مطالعة هذه الأهوال وهونت عليه الشدائد لأن سلطان هذه الصفة في العبد قوية فمن نظر هذا النظر الذي هو الحق فإنه يرى أن كل من أعطاه شيئا وأخذه منه ذلك الآخر فإنه مستحق لمعرفته بالصفة التي بها أخذها منه إلا أن يأخذها قضاء حاجة له لكونه يتضرر بالرد عليه أو ليستر مقامه بالأخذ فذلك يده يد حق كما ورد أن الصدقة تقع بيد الرحمن قبل وقوعها بيد السائل فيربيها له كما يربي أحدكم فلوه أو فصيله فهذا أخذ من غير خاطر حاجة في الوقت وغاب عن أصله الذي حركه للاخذ وهو أن ذلك تقتضيه حقيقة الممكن فهذا شخص قد استترت عنه حقيقته في الأخذ بهذا الأمر الغرضي فنحن نعرفه حين يجهل نفسه فما أعطى إلا غني عما أعطاه سواء كان لغرض أو عوض أو ما كان فإنه غني عما أعطى وما أخذ إلا مستحق أو محتاج لما أخذ لغرض أو عوض أو ما كان لأن الحاجة إلى تربية ما أخذ حاجة إذ لا يكون مربيا إلا بعد الأخذ فافهم فإنه دقيق غامض بسبب النسبة الإلهية في التربية للصدقة مع الغني المطلق الذي يستحقه والنسب الإلهية لا ينكرها إلا من ليس بمؤمن خالص فإن الله يقول وأقرضوا الله قرضا ويقول جعت فلم تطعمني وظمئت فلم تسقني وبين ذلك كله فلم يمتنع جل وتعالى عن نسبة هذه الأشياء إليه تنبيها منه لنا إنه هو الظاهر في المظاهر بحسب استعداداتها واليد العلياء هي المنفقة فهي خير بكل وجه من اليد السفلي التي هي الآخذة فالمعطي بحق والآخذ بحق ليسا على السواء في المرتبة ولا في الاسم ولا في الحال فما من شئ إلا وله وجه ونسبة إلى الحق ووجه ونسبة إلى الخلق ولهذا جعله إنفاقا فقال وأنفقوا مما رزقناكم ومما رزقناهم ينفقون فراعى عز وجل في هذا الخطاب أكابر العلماء لأنهم الذين لهم العطاء من حيث ما هو إنفاق لعلمهم بالنسبتين لأنه من النفق وهو جحر اليربوع ويسمى النافقاء له بابان إذا طلب من باب ليصاد خرج من الباب الآخر كالكلام المحتمل إذا قيدت صاحبه بوجه أمكن أن يقول لك إنما أردت الوجه الآخر من محتملات اللفظ ولما كان العطاء له نسبة إلى الحق والغني ونسبة إلى الخلق والحاجة سماه الله إنفاقا فعلماء الخلق ينفقون بالوجهين فيرون الحق فيما يعطونه معطيا وآخذا ويشاهدون أيديهم هي التي يظهر فيها العطاء والأخذ ولا يحجبهم هذا عن هذا فهؤلاء لا يرون إلا مستحقا فكل آخذ إنما أخذ بحكم الاستحقاق ولو لم يستحقه لاستحال القبول منه لما أعطيه كما يستحيل عليه الغني المطلق ولا يستحيل عليه الفقر المطلق ثم إن الذين ينتظرون مواقيت الحاجة ويدخرون كما ذكرنا للشبهة التي وقعت لهم فمنهم من يدخر على بصيرة ومنهم من يدخر لا عن بصيرة فلا نسلم لهم
(٥٨٧)