شئ من هذا ما لم يوصله إليه السمع وكذلك القوة البصرية جعل الله العقل فقيرا إليها فيما توصله إليه من المبصرات فلا يعرف الخضرة ولا الصفرة ولا الزرقة ولا البياض ولا السواد ولا ما بينهما من الألوان ما لم ينعم البصر على العقل بها وهكذا جميع القوي المعروفة بالحواس ثم إن الخيال فقير إلى هذه الحواس فلا يتخيل أصلا إلا ما تعطيه هذه القوي ثم إن القوة الحافظة إن لم تمسك على الخيال ما حصل عنده من هذه القوي لا يبقى في الخيال منها شئ فهو فقير إلى الحواس وإلى القوة الحافظة ثم إن القوة الحافظة قد تطرأ عليها موانع تحول بينها وبين الخيال فيفوت الخيال أمور كثيرة من أجل ما طرأ على القوة الحافظة من الضعف لوجود المانع فافتقر إلى القوة المذكرة فتذكره ما غاب عنه فهي معينة للقوة الحافظة على ذلك ثم إن القوة المفكرة إذا جاءت إلى الخيال افتقرت إلى القوة المصورة لتركب بها مما ضبطه الخيال من الأمور صورة دليل على أمر ما وبرهان تستند فيه إلى المحسوسات أو الضرورات وهي أمور مركوزة في الجبلة فإذا تصور الفكر ذلك الدليل حينئذ يأخذه العقل منه فيحكم به على المدلول وما من قوة إلا ولها موانع وأغاليط فيحتاج إلى فصلها من الصحيح الثابت فانظر يا أخي ما أفقر العقل حيث لا يعرف شيئا مما ذكرناه إلا بوساطة هذه القوي وفيها من العلل ما فيها فإذا أنفق للعقل أن يحصل شيئا من هذه الأمور بهذه الطرق ثم أخبره الله بأمر ما توقف في قبوله وقال إن الفكر يرده فما أجهل هذا العقل بقدر ربه كيف قلد فكره وجرح ربه فقد علمنا إن العقل ما عنده شئ من حيث نفسه وأن الذي يكتسبه من العلوم إنما هو من كونه عنده صفة القبول فإذا كان بهذه المثابة فقبوله من ربه لما يخبر به عن نفسه تعالى أولى من قبوله من فكره وقد عرف أن فكره مقلد لخياله وأن خياله مقلد لحواسه ومع تقليده فهو غير قوي على إمساك ما عنده ما لم تساعده على ذلك القوة الحافظة والمذكرة ومع هذه المعرفة بأن القوي لا تتعدى خلقها وما تعطيه حقيقتها وأنه بالنظر إلى ذاته لا علم عنده إلا الضروريات التي فطر عليها لا يقبل قول من يقول له إن ثم قوة أخرى وراءك تعطيك خلاف ما أعطتك القوة المفكرة نالها أهل الله من الملائكة والأنبياء والأولياء ونطقت بها الكتب المنزلة فاقبل منها هذه الأخبار الإلهية فتقليد الحق أولى وقد رأيت عقول الأنبياء على كثرتهم والأولياء قد قبلتها وآمنت بها وصدقتها ورأت أن تقليدها ربها في معرفة نفسه أولى من تقليد أفكارها فما لك أيها العاقل المنكر لها لا تقبلها ممن جاء بها ولا سيما عقول تقول إنها في محل الايمان بالله ورسله وكتبه ولما رأت عقول أهل الايمان بالله تعالى إن الله قد طلب منها أن تعرفه بعد أن عرفته بأدلتها النظرية علمت إن ثم علما آخر بالله لا تصل إليه من طريق الفكر فاستعملت الرياضات والخلوات والمجاهدات وقطع العلائق والانفراد والجلوس مع الله بتفريغ المحل وتقديس القلب عن شوائب الأفكار إذ كان متعلق الأفكار الأكوان واتخذت هذه الطريقة من الأنبياء والرسل وسمعت أن الحق جل جلاله ينزل إلى عباده ويستعطفهم فعلمت إن الطريق إليه من جهته أقرب إليه من الطريق من فكرها ولا سيما أهل الايمان وقد سمعت قوله تعالى من أتاني يسعى أتيته هرولة وإن قلبه وسع جلال الله وعظمته فتوجه إليه بكله وانقطع من كل ما يأخذ عنه من هذه القوي فعند هذا التوجه أفاض الله عليه من نوره علما إلهيا عرفه بأن الله تعالى من طريق المشاهدة والتجلي لا يقبله كون ولا يرده ولذلك قال إن في ذلك يشير إلى العلم بالله من حيث المشاهدة لذكرى لمن كان له قلب ولم يقل غير ذلك فإن القلب معلوم بالتقليب في الأحوال دائما فهو لا يبقى على حالة واحدة فكذلك التجليات الإلهية فمن لم يشهد التجليات بقلبه ينكرها فإن العقل يقيد وغيره من القوي إلا القلب فإنه لا يتقيد وهو سريع التقلب في كل حال ولذا قال الشارع إن القلب بين إصبعين من أصابع الرحمن يقلبه كيف يشاء فهو يتقلب بتقلب التجليات والعقل ليس كذلك فالقلب هو القوة التي وراء طور العقل فلو أراد الحق في هذه الآية بالقلب أنه العقل ما قال لمن كان له قلب فإن كل إنسان له عقل وما كل إنسان يعطي هذه القوة التي وراء طور العقل المسماة قلبا في هذه الآية فلذلك قال لمن كان له قلب فالتقليب في القلب نظير التحول الإلهي في الصور فلا تكون معرفة الحق من الحق إلا بالقلب لا بالعقل ثم يقبلها العقل من القلب كما يقبل من الفكر فلا يسعه سبحانه إلا أن يقلب ما عندك ومعنى قلب ما عندك هو أنك علقت المعرفة به عز وجل وضبطت عندك في علمك أمرا ما وأعلى أمر ضبطته في
(٢٨٩)