واجعل شريعتك المثلى مصححة * فإنها تمر يجنيه كاسبه له الإساءة والحسنى معا فكما * تعلى طرائقه تردى مذاهبه فاحذره إن له في كل طائفة * حكما إذا جهلت فينا مكاسبه لا تطلبن من الإلهام صورته * فإن وسواس إبليس يصاحبه في شكله وعلى ترتيب صورته * وإن تميز فالمعنى يقاربه قال الله تعالى ونفس وما سواها فألهمها فجورها وتقويها من قوله أيضا كلا نمد هؤلاء وهؤلاء من عطاء ربك وما كان عطاء ربك محظورا فجعل النفس محلا قابلا لما تلهمه من الفجور والتقوى فتميز الفجور فتجتنبه والتقوى فتسلك طريقه ومن وجه آخر تطلبه الآية وهو أنه بما ألهمها عراها أن يكون لها في الفجور والتقوى كسب أو تعمل وإنما هي محل لظهور الفعل فجورا كان أو تقوى شرعا فهي برزخ وسط بين هذين الحكمين ولم ينسب سبحانه إلى نفسه خاطر المباح ولا الهامة فيها به وسبب ذلك أن المباح ذاتي لها فبنفس ما خلق عينها ظهر عين المباح فهو من صفاتها النفسية التي لا تعقل النفس إلا به فهو على الحقيقة أعني خاطر المباح نعت خاص كالضحك للإنسان وإن لم يكن من الفصول المقومة فهو حد لازم رسمي فإن من خاصية النفس دفع المضار واستجلاب المنافع وهذا لا يوجد في أقسام أحكام الشرع إلا في قسم المباح خاصة فإنه الذي يستوي فعله وتركه فلا أجر فيه ولا وزر شرعا وهو قوله وما سواها من التسوية وهو الاعتدال في الشئ فسواك فعدلك يمتن بذلك على الإنسان وما في أقسام أحكام الشريعة قسم يقتضي العدل ويعطي الاعتدال إلا قسم المباح فهي تطلبه بذاتها وخاصيتها فلذلك لم يصفها بأنها ملهمة فيه وما ذكر سبحانه من الملهم لها بالفجور والتقوى فأضمر الفاعل فالظاهر أن الضمير المضمر يعود على المضمر في سواها وهو الله تعالى ومن نظر في قول رسول الله صلى الله عليه وسلم إن للملك في الإنسان لمة وللشيطان لمة يعني بالطاعة وهي التقوى والمعصية وهي الفجور فيكون الضمير في ألهمها للملك في التقوى وللشيطان في الفجور ولم يجمعهما في ضمير واحد لبعد المناسبة بينهما وكل بقضاء الله وقدره ولا يصح أن يقال في هذا الموضع إن الله هو الملهم بالتقوى وإن الشيطان هو الملهم بالفجور لما في هذا من الجهل وسوء الأدب لما في ذلك من غلبة أحد الخاطرين والفجور أغلب من التقوى وأيضا لقوله تعالى ما أصابك من حسنة فمن الله وما أصابك من سيئة فمن نفسك فإنه في تلك الآية ظاهر الاسم والسيئة فيها ما هي شرعا فتكون فجورا وإنما هي مما يسوءه ولا يوافق غرضه وهو في الظاهر قولهم فإنهم كانوا يتطيرون به صلى الله عليه وسلم أعني الكافرين فأمره سبحانه أن يقول كل من عند الله فما لهؤلاء القوم لا يكادون يفقهون حديثا أي ما يحدث فيهم من الكوائن يقول الله عنهم إنهم يقولون إن تصبهم حسنة يقولوا هذا من عند الله وإن تصبهم سيئة أي ما يسوءهم فمن عندك قل كل من عند الله وهو قوله طائركم عند الله فالفاعل في ألهمها مضمر فإن كان الله هنا في الضمير هو الملهم بالتقوى والشيطان هو الملهم بالفجور فقد جمع الله والشيطان ضمير واحد وهذا غاية في سوء الأدب مع الله وما أحسن ما جاء بالواو العاطفة في قوله وتقواها فتعالى الله الملك القدوس أن يجتمع مع المطرود من رحمة الله في ضمير مع احتمال الأمر في ذلك وقد قال رسول الله صلى الله عليه وسلم بئس الخطيب أنت لما سمعه قد جمع بين الله تعالى ورسوله صلى الله عليه وسلم في ضمير واحد فقال ومن يعصهما وما قال ذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم إذ جمع بين الله وبين نفسه في ضمير واحد إلا بوحي من الله وهو قوله من يطع الرسول فقد أطاع الله وقال وما ينطق عن الهوى ونحن يلزمنا ملازمة الأدب فيما لم نؤمر به ولا نهينا عنه كما فعل رسول الله صلى الله عليه وسلم في قوله بئس الخطيب أنت وكذلك لا يترجح أن تنسب الإلهام بالفجور إلى الله فلم يبق بعد هذا الاستقصاء أن يكون الضمير في ألهمها بالفجور إلا الشيطان وبالواو بالتقوى إلا الملك فمقابلة مخلوق بمخلوق أولى من مقابلة مخلوق بخالق وفي قول رسول الله صلى الله عليه وسلم بئس الخطيب كفاية لمن أنار الله بصيرته فقد أعلمك برتبة نفسك وإنها ليست بأمارة بالسوء من حيث ذاتها وإنما ينسب إليها ذلك من حيث إنها قابلة لإلهام الشيطان بالفجور ولجهلها بالحكم المشروع في ذلك كنفس أمرت صاحبها بارتكاب أمر لم تعلم تحريمه
(٢٨٦)