عرضي والجزع في الإنسان أقوى منه في الحيوانات إلا الصرصر تقول العرب أجبن من صرصر وسبب قوته في الإنسان العقل والفكر الذي ميزه الله بهما على سائر الحيوان وما يشجع الإنسان إلا القوة الوهمية كما أنه أيضا بهذه القوة يزيد جبنا وجزعا في مواضع مخصوصة فإن الوهم سلطان قوي وسبب ذلك أن اللطيفة الإنسانية متولدة بين الروح الإلهي الذي هو النفس الرحماني وبين الجسم المسوي المعدل من الأركان المعدلة من الطبيعة التي جعلها الله مقهورة تحت النفس الكلية كما جعل الأركان مقهورة تحت حكم سلطان الأفلاك ثم إن الجسم الحيواني مقهور تحت سلطان الأركان التي هي العناصر فهو مقهور لمقهور عن مقهور وهو النفس عن مقهور وهو العقل فهو في الدرجة الخامسة من القهر من وجه فهو أضعف الضعفاء قال الله عز وجل الله الذي خلقكم من ضعف فالضعف أصله ثم جعل له قوة عارضة وهو قوله ثم جعل من بعد ضعف قوة ثم رده إلى أصله من الضعف فقال عز وجل ثم جعل من بعد قوة ضعفا وشيبة فهذا الضعف الأخير إنما أعده لإقامة النشأة الآخرة عليه كما قامت نشأة الدنيا على الضعف ولقد علمتم النشأة الأولى وإنما كان هذا ليلازم ذاته الذلة والافتقار وطلب المعونة والحاجة لي خالقه ومع هذا كله يذهل عن أصله ويتيه بما عرض له من القوة فيدعي ويقول أنا ويمني نفسه بمقابلة لأهوال العظام فإذا قرصة برغوث أظهر الجزع لوجود الألم وبادر لإزالة ذلك الضرر ولم يقربه قرار حتى يجده فيقتله وما عسى أن يكون البرغوث حتى يعتني به هذا الاعتناء ويزلزله عن مضجعه ولا يأخذه نوم فأين تلك الدعوى والإقدام على الأهوال العظام وقد فضحته قرصة برغوث أو بعوضة هذا أصله ذلك ليعلم أن إقدامه على الأهوال العظام إنما هو بغيره لا بنفسه وهو ما يؤيده الله به من ذلك كما قال وأيدناه أي قويناه ولهذا شرع وإياك نستعين في كل ركعة ولا حول ولا قوة إلا بالله ولما علم الإنسان أنه لولا جود الله عز وجل لم يظهر له عين في الوجود وأن أصله لم يكن شيئا مذكورا قال تعالى وقد خلقتك من قبل ولم تك شيئا فللوجود لذة وحلاوة وهو الخير ولتوهم العدم العيني ألم شديد عظيم في النفوس لا يعرف قدر ذلك إلا العلماء ولكن كل نفس تجزع من العدم أن تلحق به كما هو حالها فمهما رأت أمرا تتوهم فيه أنه يلحقها بعدم عينها أو بما يقاربه هربت منه وارتاعت وخافت على عينها وبما كانت أيضا عن الروح الإلهي الذي هو نفس الرحمن ولهذا كني عنه بالنفخ لمناسبة النفس فقال ونفخت فيه من روحي وكذا جعل عيسى بنفخ في صورة طينية كهيئة الطير فما ظهرت الأرواح إلا من الأنفاس غير أن للمحل الذي تمر به أثرا فيها بلا شك ألا ترى الريح إذا مرت على شئ نتن جاءت ريح منتنة إلى مشمك وإذا مرت بشئ عطر جاءت بريح طيبة لذلك اختلفت أرواح الناس فروح طيبة لجسد طيب ما أشركت قط ولا كانت محلا لسفساف الأخلاق كأرواح الأنبياء والأولياء والملائكة وروح خبيث لجسد خبيث لم تزل مشركة محلا لسفساف الأخلاق وذلك إنما كان لغلبة بعض الطبائع أعني الأخلاط على بعض في أصل نشأة الجسد التي هي سبب طيب الروح ووجود مكارم الأخلاق وسفسافها وخبث الروح فصحة الأرواح وعافيتها مكارم أخلاقها التي اكتسبتها من نشأة بدنها العنصري فجاءت بكل طيب ومليح ومرض الأرواح سفساف الأخلاق ومذمومها التي اكتسبتها أيضا من نشأة بدنها العنصري فجاءت بكل خبيث وقبيح ألا ترى الشمس إذا أفاضت نورها على جسم الزجاج الأخضر ظهر النور في الحائط أو في الجسم الذي تطرح الشعاع عليه أخضر وإن كان الزجاج أحمر طرح الشعاع أحمر في رأى العين فانصبغ في الناظر بلون المحل وذلك للطافته يقبل الأشياء بسرعة ولما كان الهواء من أقوى الأشياء وكان الروح نفسا وهو شبيه بالهواء كانت القوة له فكان أصل نشأة الأرواح من هذه القوة واكتسبت الضعف من المزاج الطبيعي البدني فإنه ما ظهر لها عين إلا بعد أثر المزاج الطبيعي فيها فخرجت ضعيفة لأنها إلى الجسم أقرب في ظهور عينها فإذا قبلت القوة إنما تقبلها من أصلها الذي هو النفس الرحماني المعبر عنه بالروح المنفوخ منه المضاف إلى الله فهي قابلة للقوة كما هي قابلة للضعف وكلاهما بحكم الأصل وهي إلى البدن أقرب لأنها أحدث عهدا به فغلب ضعفها على قوتها فلو تجردت عن المادة ظهرت قوتها الأصلية التي لها من النفخ الإلهي ولم يكن شئ أشد تكبرا منها فألزمها الله الصورة الطبيعية دائما في الدنيا وفي البرزخ في النوم وبعد الموت فلا ترى نفسها أبدا مجردة عن المادة وفي الآخرة لا تزال في
(٢٧٥)