لا يأتي إلى كل طائفة إلا بما هو الغالب عليها وليس غرضه من الصالحين إلا أن يجهلوه في الأخذ عنه فإذا جهلوه ونسبوا ذلك إلى الله ولم يعرفوا على أي طريق وصل إليهم كأنه قنع منهم بهذا القدر من الجهل وعرف أنهم تحت سلطانه فلا يزال يستدرجه في خيريته حتى يتمكن منه في تصديق خواطره وأنها من الله فيسلخه من دينه كما تنسلخ الحية من جلدها ألا ترى صورة الجلد المسلوخ منها على صورة الحية كذلك هذا الأمر جاء إبليس إلى عيسى عليه السلام في صورة شخص شيخ في ظاهر الحس لأن الشيطان ليس له إلى باطن الأنبياء عليهم السلام من سبيل فخواطر الأنبياء عليهم السلام كلها إما ربانية أو ملكية أو نفسية لا حظ للشيطان في قلوبهم ومن يحفظ من الأولياء في علم الله يكون بهذه المثابة في العصمة مما يلقى لا في العصمة من وصوله إليه فالولي المعتنى به على علامة من الله فيما يلقي إليه الشيطان وسبب ذلك أنه ليس بمشرع والأنبياء مشرعون فلذلك عصمت بواطنهم فقال لعيسى عليه السلام يا عيسى قل لا إله إلا الله ورضي منه أن يطيع أمره في هذا القدر فقال عيسى عليه السلام أقولها لا لقولك لا إله إلا الله فرجع خاسئا ومن هنا تعلم الفرق بين العلم بالشئ وبين الايمان به وأن السعادة في الايمان وهو أن تقول ما تعلمه وما قلته لقول رسولك الأول الذي هو موسى عليه السلام لقول هذا الرسول الثاني الذي هو محمد صلى الله عليه وسلم لا لعلمك ولا للقول الأول فحينئذ لك يشهد بالإيمان ومالك السعادة وإذا قلت ذلك لا لقوله وأظهرت أنك قلت ذلك لقوله كنت منافقا قال تعالى يا أيها الذين آمنوا يريد أهل الكتاب حيث قالوا ما قالوه لأمر نبيهم عيسى أو موسى أو من كان من أهل الايمان بذلك من الكتب المتقدمة ولهذا قال لهم يا أيها الذين آمنوا ثم قال لهم آمنوا بأنبيائي قولوا لا إله إلا الله لقول محمد صلى الله عليه وسلم لا لعلمكم بذلك ولا لإيمانكم بنبيكم الأول فتجمعوا بين الإيمانين فيكون لكم أجران فيقنع الشيطان من الإنسان أن يلبس عليه بهذا القدر فلا يفرق بين ما هو من عند الله من حيث ما هو من عند الله ولا بين طريق الملك والنفس والشيطان فالله يجعل لك علامة تعرف بها مراتب خواطرك ومما تعرف به الخواطر الشيطانية وإن كانت في لطاعة بعدم الثبوت على الأمر الواحد وسرعة الاستبدال من خاطر بأمر ما إلى خاطر بأمر آخر فإنه حريص وهو مخلوق من لهب النار ولهب النار سريع الحركة فأصل إبليس عدم البقاء على حالة واحدة في أصل نشأته فهو بحكم أصله والإنسان له الثبوت فإنه من التراب فله البرد واليبس فهو ثابت في شغله وكذلك الخواطر النفسية ثابتة ما لم يزلزلها الملك أو الشيطان ومتعلق أصل الخواطر الشيطانية إنما هو المحظور فعلا كان أو تركا ثم يليه المكروه فعلا كان أو تركا فالأول في العامة والثاني في العباد من العامة وقد يتعلق بالمباح في حق المبتدي من أهل طريق الله ويأتي بالمندوب في حق المتوسطين من أهل الله أصحاب السماع فإنه يستدرج كل طائفة من حيث ما هو الغالب عليها فإنه عالم بمواقع المكر والاستدراج ويأتي العارفين بالواجبات فلا يزال بهم حتى نووا مع الله فعل أمر ما من الطاعات وهو في نفس الأمر عهد يعهده مع الله فإذا استوثق منه في ذلك وعزم وما بقي إلا الفعل أقام له عبادة أخرى أفضل منها شرعا فيرى العارف أن يقطع زمانه بالأولى فيترك الأول ويشرع في الثاني فيفرح إبليس حيث جعله ينقض عهد الله من بعد ميثاقه والعارف لا خبر له بذلك فلو عرف من أول أن ذلك من الشيطان عرف كيف يرده وكيف يأخذه كما فعل عيسى عليه السلام وكل متمكن من أهل الله من ورثة الأنبياء فيراها مع كونها حسنة هي خواطر شيطانية وكذا جاء للمنافق من أهل الكتاب قال له ألم تعلم أن نبيك قد بشر بهذا الرجل وقد علمت أنه هو والنبوة تجمعهما فقل له أنك رسول الله لقول نبيك لا لقوله ولا فرق بينهما فيقول المنافق عند ذلك أنك رسول الله فأكذبهم الله فقال تعالى إذا جاءك المنافقون قالوا نشهد أنك لرسول الله على ما قررهم الشيطان فقال الله والله يعلم أنك لرسوله والله يشهد أن المنافقين لكاذبون في أنهم قالوا ذلك لقولك لا في قولهم أنك رسول الله ولو أراد ذلك كان نفيا لرسالته صلى الله عليه وسلم فقد أعلمتك بمداخل الشيطان إلى نفوس العالم لتحذره وتسأل الله أن يعطيك علامة تعرفه بها وقد أعطاك الله في العامة ميزان الشريعة وميز لك بين فرائضه ومندوباته ومباحه ومحظوره ومكروهه ونص على ذلك في كتابه وعلى لسان رسوله فإذا خطر لك خاطر في محظور أو مكروه فتعلم أنه من الشيطان بلا شك وإذا خطر لك خاطر في مباح فتعلم أنه من النفس بلا شك فخاطر الشيطان بالمحظور
(٢٨٣)