وكذا الهبات من العلوم * لدى المحقق في البلس لله قوم ما لهم * في نفس نفسهم نفس وهم الذين هموهم * أهل المشاهد في الغلس فهم الخلائف في الغيوب * وفي الشهادة كالعسس أعلى الإله مقامهم * في سورة تتلى عبس فيها لطائف سرهم * فابحث ولا تك تختلس من كان ذا علم بها * في حاله لم يبتئس اعلم أيدك الله بروح القدس أن رجال هذا الباب هم الزهاد الذين كان الورع سبب زهدهم وذلك أن القوم تورعوا في المكاسب على أشد ما يكون من عزائم الشريعة فكلما حاك له في نفوسهم شئ تركوه عملا على قوله صلى الله عليه وسلم دع ما يريبك إلى ما لا يريبك وقوله استفت قلبك وقال بعضهم ما رأيت أسهل علي من الورع كل ما حاك له في نفسي شئ تركته إلى أن جعل الله لهم علامات يعرفون بها الحلال من الحرام في المطاعم وغيرها إلى أن ارتقوا عن العلامات إلى خرق العوائد عندهم في الشئ المتورع فيه فيستعملونه فيظن من لا علم له بذلك أنه أتى حراما وليس كذلك فاتسع عليهم ذلك الضيق والحرج وقد ذقنا هذا من نفوسنا وزال عنهم ما كانوا يجدونه في نفوسهم من البحث والتفتيش عن ذلك وهذه العلامة وهذا الحال التي ارتقوا إليها لا تكون أبدا إلا من نفس الرحمن رحمهم بذلك الرحمن لما رآهم فيه من التعب والضيق والحرج وتهمة الناس في مكاسبهم وما يؤديهم إليه هذا الفعل من سوء الظن بعباد الله فنفس الرحمن عنهم بما جعل لهم من العلامات في الشئ وفي حق قوم بالمقام الذي ارتقوا إليه الذي ذكرناه فيأكلون طيبا ويستعملون طيبا فالطيبات للطيبين والطيبون للطيبات واستراحوا إذ كانوا على بينة من ربهم في مطاعمهم ومشاربهم وأداهم التحقق بالورع إلى الزهد في الكسب إذ كان مبني اكتسابهم الورع ليأكلوا مما يعلمون أن ذلك حلال لهم استعماله ثم عملوا على ذلك الورع في المنطق من أجل الغيبة والكلام فيما يخوض الإنسان فيه من الفضول فرأوا أن السبب الموجب لذلك مجالسة الناس ومعاشرتهم وربما قدروا على مسك نفوسهم عن الكلام بما لا ينبغي لكن بعضهم أو أكثرهم عجز أن يمنع الناس بحضوره عن الكلام بالفضول وما لا يعنيهم فأداهم أيضا هذا الحرج إلى الزهد في الناس فآثروا العزلة والانقطاع عن الناس باتخاذ الخلوات وغلق بابهم عن قصد الناس إليهم وآخرون بالسياحة في الجبال والشعاب والسواحل وبطون الأودية فنفس الله عنهم من اسمه الرحمن بوجوه مختلفة من الأنس به أعطاهم ذلك نفس الرحمن فأسمعهم أذكار الأحجار وخرير المياه وهبوب الرياح ومناطق الطير وتسبيح كل أمة من المخلوقات ومحادثتهم معه وسلامهم عليه فآنس بهم من وحشته وعاد في جماعة وخلق ما لهم كلام إلا في تسبيح أو تعظيم أو ذكر آلاء إلهية أو تعريف بما ينبغي وهو جليس لهم ويسمع جوارحه وكل جزء فيه يكلمه بما أنعم الله عليه به فتغمره النعم فيزيد في العبادة ومنهم من ينفس عنه بالأنس بالوحوش رأينا ذلك فتغدو عليه وتروح مستأنسة به وتكلمه بما يزيده حرصا على عبادة ربه ومنهم من يجالسه الروحانيون من الجان ولكن هو دون الجماعة في الرتبة إذا لم يكن له حال سوى هذا لأنهم قريب من الأنس في الفضول والكيس من الناس من يهرب منهم كما يهرب من الناس فإن مجالستهم رديئة جدا قليل أن تنتج خيرا لأن أصلهم نار والنار كثيرة الحركة ومن كثرت حركته كان الفضول أسرع إليه في كل شئ فهم أشد فتنة على جليسهم من الناس فإنهم قد اجتمعوا مع الناس في كشف عورات الناس التي ينبغي للعاقل أن لا يطلع عليها غير أن الإنس لا تؤثر مجالسة الإنسان إياهم تكبرا ومجالسة الجن ليست كذلك فإنهم بالطبع يؤثرون في جليسهم التكبر على الناس وعلى كل عبد لله وكل عبد لله رأى لنفسه شفوفا على غيره تكبرا فإنه يمقته الله في نفسه من حيث لا يشعر وهذا من المكر الخفي وعين مقت الله إياه هو ما يجده من التكبر على من ليس له مثل هذا ويتخيل أنه في الحاصل وهو في الفائت ثم اعلم أن الجان هم أجهل العالم الطبيعي بالله ويتخيل جليسهم بما يخبرونه به من حوادث الأكوان وما يجري في العالم مما
(٢٧٣)