مع طلبه معرفة ذاته تعالى أو الجمع بين الدليلين المتعارضين أوقعهم في الحيرة فرجال الحيرة هم الذين نظروا في هذه الدلائل واستقصوها غاية الاستقصاء إلى أن أداهم ذلك النظر إلى العجز والحيرة فيه من نبي أو صديق قال صلى الله عليه وسلم اللهم زدني فيك تحيرا فإنه كلما زاده الحق علما به زاده ذلك العلم حيرة ولا سيما أهل الكشف لاختلاف الصور عليهم عند الشهود فهم أعظم حيرة من أصحاب النظر في الأدلة بما لا يتقارب قال النبي صلى الله عليه وسلم بعد ما بذل جهده في الثناء على خالقه بما أوحى به إليه لا أحصي ثناء عليك أنت كما أثنيت على نفسك وقال أبو بكر الصديق رضي الله عنه في هذا المقام وكان من رجاله العجز عن درك الإدراك إدراك أي إذا علمت إن ثم من لا يعلم ذلك هو العلم بالله تعالى فكان الدليل على العلم به عدم العلم به والله قد أمرنا بالعلم بتوحيده وما أمرنا بالعلم بذاته بل نهى عن ذلك بقوله ويحذركم الله نفسه ونهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن التفكر في ذات الله تعالى إذ من ليس كمثله شئ كيف يوصل إلى معرفة ذاته فقال الله تعالى آمرا بالعلم بتوحيده فاعلم أنه لا إله إلا الله فالمعرفة به من كونه إلها والمعرفة بما ينبغي للإله أن يكون عليه من الصفات التي يمتاز بها عن من ليس بإله وعن المألوه هي المأمور بها شرعا فلا يعرف الله إلا الله فقامت الأدلة العقلية القاطعة على أنه إله واحد عند أهل النظر وأهل الكشف فلا إله إلا هو ثم بعد هذا الدليل العقلي على توحيده والعلم الضروري العقلي بوجوده ورأينا أهل طريق الله تعالى من رسول ونبي وولي قد جاءوا بأمور من المعرفة بنعوت الإله في طريقهم إحالتها الأدلة العقلية وجاءت بصحتها الألفاظ النبوية والأخبار الإلهية فبحث أهل الطريق عن هذه المعاني ليحصلوا منها على أمر يتميزون به عن أهل النظر الذين وقفوا حيث بلغت بهم أفكارهم مع تحققهم صدق الأخبار فقالوا نعلم أن ثم طورا آخر وراء طور إدراك العقل الذي يستقل به وهو للأنبياء وكبار الأولياء به يقبلون هذه الأمور الواردة عليهم في الجناب الإلهي فعملت هذه الطائفة في تحصيل ذلك بطريق الخلوات والأذكار المشروعة لصفاء القلوب وطهارتها من دنس الفكر إذ كان المفكر لا يفكر إلا في المحدثات لا في ذات الحق وما ينبغي أن يكون عليه في نفسه الذي هو مسمى الله ولم يجد صفة إثبات نفسية فأخذ ينظر في كل صفة يمكن أن يقبلها المحدث الممكن يسلبها عن الله لئلا يلزمه حكم تلك الصفة كما لزمت الممكن الحادث مثل ما فعل بعض النظار من المتكلمين في أمور أثبتوها وطردوها شاهدا وغائبا ويستحيل على ذات الحق أن تجتمع مع الممكن في صفة فإن كل صفة يتصف بها الممكن يزول وجودها بزوال الموصوف بها أو تزول هي مع بقاء الممكن كصفات المعاني والأولى كصفات النفس ثم إن كل صفة منها ممكنة فإذا طردوها شاهدا وغائبا فقد وصفوا واجب الوجود لنفسه بما هو ممكن لنفسه والواجب الوجود لنفسه لا يقبل ما يمكن أن يكون ويمكن أن لا يكون فإذا بطل الاتصاف به من حيث حقيقة ذلك الوصف لم يبق إلا الاشتراك في اللفظ إذ قد بطل الاشتراك في الحد والحقيقة فلا يجمع صفة الحق وصفة العبد حد واحد أصلا فاذن بطل طرد ما قالوه وطردوه شاهدا وغائبا فلم يكن قولنا في الله إنه عالم على حد ما نقول في الممكن الحادث إنه عالم من طريق حد العلم وحقيقته فإن نسبة العلم إلى الله تخالف نسبة العلم إلى الخلق الممكن ولو كان عين العلم القديم هو عين العلم المحدث لجمعهما حد واحد ذاتي أعني العلمين واستحال عليه ما يستحيل على مثله من حيث ذاته ووجدنا الأمر على خلاف ذلك فتعلمت هذه الطائفة في تحصيل شئ مما وردت به الأخبار الإلهية من جانب الحق وشرعت في صقالة قلوبها بالأذكار وتلاوة القرآن وتفريغ المحل من النظر في الممكنات والحضور والمراقبة مع طهارة الظاهر بالوقوف عند الحدود المشروعة من غض البصر عن الأمور التي نهى أن ينظر إليها من العورات وغيرها وإرساله في الأشياء التي تعطيه الاعتبار والاستبصار وكذلك سمعه ولسانه ويده ورجله وبطنه وفرجه وقلبه وما ثم في ظاهره سوى هذه السبعة والقلب ثامنها ويزيل التفكر عن نفسه جملة واحدة فإنه مفرق لهمه ويعتكف على مراقبة قلبه عند باب ربه عسى الله أن يفتح له الباب إليه ويعلم ما لم يكن يعلم مما علمته الرسل وأهل الله مما لم تستقل العقول بإدراكه وإحالته فإذا فتح الله لصاحب هذا القلب هذا الباب حصل له تجل إلهي أعطاه ذلك التجلي بحسب ما يكون حكمه فينسب إلى الله منه أمرا لم يكن قبل ذلك يجرأ على نسبته إلى الله سبحانه ولا يصفه به إلا قدر ما جاءت به الأنباء الإلهية فيأخذها تقليدا والآن يأخذ ذلك كشفا موافقا
(٢٧١)