ينشئه من الطين والطبخ وكان نش ء جسم حواء نش ء النجار فيما ينحته من الصور في الخشب فلما نحتها في الضلع وأقام صورتها وسواها وعدلها نفخ فيها من روحه فقامت حية ناطقة أنثى ليجعلها محلا للزراعة والحرث لوجود الإنبات الذي هو التناسل فسكن إليها وسكنت إليه وكانت لباسا له وكان لباسا لها قال تعالى هن لباس لكم وأنتم لباس لهن وسرت الشهوة منه في جميع أجزائه فطلبها فلما تغشاها وألقى الماء في الرحم ودار بتلك النطفة من الماء دم الحيض الذي كتبه الله على النساء تكون في ذلك الجسم جسم ثالث على غير ما تكون منه جسم آدم وجسم حواء فهذا هو الجسم الثالث فتولاه الله بالنشء في الرحم حالا بعد حال بالانتقال من ماء إلى نطفة إلى علقة إلى مضغة إلى عظم ثم كسا العظم لحما فلما أتم نشأته الحيوانية أنشأه خلقا آخر فنفخ فيه الروح الإنساني فتبارك الله أحسن الخالقين ولولا طول الأمر لبينا تكوينه في الرحم حالا بعد حال ومن يتولى ذلك من الملائكة الموكلين بإنشاء الصور في الأرحام إلى حين الخروج ولكن كان الغرض الإعلام بأن الأجسام الإنسانية وإن كانت واحدة في الحد والحقيقة والصور الحسية والمعنوية فإن أسباب تأليفها مختلفة لئلا يتخيل أن ذلك لذات السبب تعالى الله بل ذلك راجع إلى فاعل مختار يفعل ما يشاء كيف يشاء من غير تحجير ولا قصور على أمر دون أمر لا إله إلا هو العزيز الحكيم ولما قال أهل الطبيعة إن ماء المرأة لا يتكون منه شئ وإن الجنين الكائن في الرحم إنما هو من ماء الرجل لذلك جعلنا تكوين جسم عيسى تكوينا آخر وإن كان تدبيره في الرحم تدبير أجسام البنين فإن كان من ماء المرأة إذ تمثل لها الروح بشرا سويا أو كان عن نفخ بغير ماء فعلى كل وجه هو جسم رابع مغاير في النش ء غيره من أجسام النوع ولذلك قال تعالى إن مثل عيسى أي صفة نش ء عيسى عند الله كمثل آدم خلقه من تراب الضمير يعود على آدم ووقع الشبه في خلقه من غير أب أي صفة نشئة صفة نش ء آدم إلا أن آدم خلقه من تراب ثم قال له كن ثم إن عيسى على ما قيل لم يلبث في بطن مريم لبث البنين المعتاد لأنه أسرع إليه التكوين لما أراد الله أن يجعله آية ويرد به على الطبيعيين حيث حكموا على الطبيعة بما أعطتهم من العادة لا بما تقتضيه مما أودع الله فيها من الأسرار والتكوينات العجيبة ولقد أنصف بعض حذاق هذا الشأن الطبيعة فقال لا نعلم منها إلا ما أعطتنا خاصة وفيها ما لا نعلم فهذا قد ذكرنا ابتداء الجسوم الإنسانية وإنها أربعة أجسام مختلفة النش ء كما قررنا وأنه آخر المولدات فهو نظير العقل الأول وبه ارتبط لأن الوجود دائرة فكان ابتداء الدائرة وجود العقل الأول الذي ورد في الخبر أنه أول ما خلق الله العقل فهو أول الأجناس وانتهى الخلق إلى الجنس الإنساني فكملت الدائرة واتصل الإنسان بالعقل كما يتصل آخر الدائرة بأولها فكانت دائرة وما بين طرفي الدائرة جميع ما خلق الله من أجناس العالم بين العقل الأول الذي هو القلم أيضا وبين الإنسان الذي هو الموجود الآخر ولما كانت الخطوط الخارجة من النقطة التي في وسط الدائرة إلى المحيط الذي وجد عنها تخرج على السواء لكل جزء من المحيط كذلك نسبة الحق تعالى إلى جميع الموجودات نسبة واحدة فلا يقع هناك تغيير البتة كانت الأشياء كلها ناظرة إليه وقابلة منه ما يهبها نظر أجزاء المحيط إلى النقطة وأقام سبحانه هذه الصورة الإنسانية بالحركة المستقيمة صورة العمد الذي للخيمة فجعله لقبة هذه السماوات فهو سبحانه يمسكها أن تزول بسببه فعبرنا عنه بالعمد فإذا فنيت هذه الصورة ولم يبق منها على وجه الأرض أحد متنفس وانشقت السماء فهي يومئذ واهية لأن العمد زال وهو الإنسان ولما انتقلت العمارة إلى الدار الآخرة بانتقال الإنسان إليها وخربت الدنيا بانتقاله عنها علمنا قطعا إن الإنسان هو العين المقصودة لله من العالم وأنه الخليفة حقا وأنه محل ظهور الأسماء الإلهية وهو الجامع لحقائق العالم كله من ملك وفلك وروح وجسم وطبيعة وجماد ونبات وحيوان إلى ما خص به من علم الأسماء الإلهية مع صغر حجمه وجرمه وإنما قال الله فيه بأن خلق السماوات والأرض أكبر من خلق الناس لكون الإنسان متولدا عن السماء والأرض فهما له كالأبوين فرفع الله مقدارهما ولكن أكثر الناس لا يعلمون فلم يرد في الجرمية فإن ذلك معلوم حسا غير أن الله تعالى ابتلاه ببلاء ما ابتلى به أحدا من خلقه إما لأن يسعده أو يشقيه على حسب ما يوفقه إلى استعماله فكان البلاء الذي ابتلاه به إن خلق فيه قوة تسمى الفكر وجعل هذه القوة خادمة لقوة أخرى تسمى العقل وجبر العقل مع سيادته على الفكر أن يأخذ منه ما يعطيه ولم يجعل للفكر مجالا إلا في القوة الخيالية وجعل سبحانه القوة الخيالية محلا
(١٢٥)