وما تنزل إلا بأمر ربك له ما بين أيدينا وما خلفنا وما بين ذلك وما كان ربك نسيا وقال فيهم لا يعصون الله ما أمرهم فهؤلاء من الملائكة هم الولاة خاصة وخلق الله ملائكة هم عمار السماوات والأرض لعبادته فما في السماء والأرض موضع إلا وفيه ملك ولا يزال الحق يخلق من أنفاس العالم ملائكة ما داموا متنفسين ولما انتهى من حركات هذا الفلك الأول ومدته أربع وخمسون ألف سنة مما تعدون خلق الله الدار الدنيا وجعل لها أمدا معلوما تنتهي إليه وتنقضي صورتها وتستحيل من كونها دارا لنا وقبولها صورة مخصوصة وهي التي نشاهدها اليوم إلى أن تبدل الأرض غير الأرض والسماوات ولما انقضى من مد حركة هذا الفلك ثلاث وستون ألف سنة مما تعدون خلق الله الدار الآخرة الجنة والنار اللتين أعدهما الله لعباده السعداء والأشقياء فكان بين خلق الدنيا وخلق الآخرة تسع آلاف سنة مما تعدون ولهذا سميت آخرة لتأخر خلقها عن خلق الدنيا وسميت الدنيا الأولى لأنها خلقت قبلها قال تعالى وللآخرة خير لك من الأولى يخاطب نبيه صلى الله عليه وسلم ولم يجعل للآخرة مدة ينتهي إليها بقاؤها فلها البقاء الدائم وجعل سقف الجنة هذا الفلك وهو العرش عندهم الذي لا تتعين حركته ولا تتميز فحركته دائمة لا تنقضي وما من خلق ذكرناه خلق إلا وتعلق القصد الثاني منه وجود الإنسان الذي هو الخليفة في العالم وإنما قلت القصد الثاني إذ كان القصد الأول معرفة الحق وعبادته التي لها خلق العالم كله فما من شئ إلا وهو يسبح بحمده ومعنى القصد الثاني والأول التعلق الإرادي لا حدوث الإرادة لأن الإرادة لله صفة قديمة أزلية اتصفت بها ذاته كسائر صفاته ولما خلق الله هذه الأفلاك والسماوات وأوحى في كل سماء أمرها ورتب فيها أنوارها وسرجها وعمرها بملائكته وحركها تعالى فتحركت طائعة لله آتية إليه طلبا للكمال في العبودية التي تليق بها لأنه تعالى دعاها ودعا الأرض فقال لها وللأرض ائتيا طوعا أو كرها لأمر حد لهما قالتا أتينا طائعين فهما آتيتان أبدا فلا تزالان متحركتين غير أن حركة الأرض خفية عندنا وحركتها حول الوسط لأنها أكر فأما السماء فاتت طائعة عند أمر الله لها بالإتيان وأما الأرض فاتت طائعة لما علمت نفسها مقهورة وأنه لا بد أن يؤتى بها بقوله أو كرها فكانت المرادة بقوله تعالى أو كرها فاتت طائعة كرها فقضاهن سبع سماوات في يومين وأوحى في كل سماء أمرها وقد كان خلق الأرض وقدر فيها أقواتها من أجل المولدات فجعلها خزانة لأقوانهم وقد ذكرنا ترتيب نش ء العالم في كتاب عقلة المستوفز فكان من تقدير أقواتها وجود الماء والهواء والنار وما في ذلك من البخارات والسحب والبروق والرعود والآثار العلوية وذلك تقدير العزيز العليم وخلق الجان من النار والطير والدواب البرية والبحرية والحشرات من عفونات الأرض ليصفوا لهواء لنا من بخارات العفونات التي لو خالطت الهواء الذي أودع الله حياة هذا الإنسان والحيوان وعافيته فيه لكان سقيما مريضا معلولا فصفى له الجو سبحانه لطفا منه بتكوين هذه المعفنات فقلت الأسقام والعلل ولما استوت المملكة وتهيأت وما عرف أحد من هؤلاء المخلوقات كلها من أي جنس يكون هذا الخليفة الذي مهد الله هذه المملكة لوجوده فلما وصل الوقت المعين في علمه لإيجاد هذا الخليفة بعد أن مضى من عمر الدنيا سبع عشرة ألف سنة ومن عمر الآخرة الذي لا نهاية له في الدوام ثمان آلاف سنة أمر الله بعض ملائكته أن يأتيه بقبضة من كل أجناس تربة الأرض فأتاه بها في خبر طويل معلوم عند الناس فأخذها سبحانه وخمرها بيديه فهو قوله لما خلقت بيدي وكان الحق قد أودع عند كل ملك من الملائكة الذين ذكرناهم وديعة لآدم وقال لهم إني خالق بشرا من طين وهذه الودائع التي بأيديكم له فإذا خلقته فليؤد إليه كل واحد منكم ما عنده مما أمنتكم عليه ثم إذا سويته ونفخت فيه من روحي فقعوا له ساجدين فلما خمر الحق تعالى بيديه طينة آدم حتى تغير ريحها وهو المسنون وذلك الجزء الهوائي الذي في النشأة جعل ظهره محلا للأشقياء والسعداء من ذريته فأودع فيه ما كان في قبضتيه فإنه سبحانه أخبرنا أن في قبضة يمينه السعداء وفي قبضة اليد الأخرى الأشقياء وكلتا يدي ربي يمين مباركة وقال هؤلاء للجنة وبعمل أهل الجنة يعملون وهؤلاء للنار وبعمل أهل النار يعملون وأودع الكل طينة آدم وجمع فيه الأضداد بحكم المجاورة وأنشأه على الحركة المستقيمة وذلك في دولة السنبلة وجعله ذا جهات ست الفوق وهو ما يلي رأسه والتحت يقابله وهو ما يلي رجليه واليمين وهو ما يلي جانبه الأقوى والشمال يقابله وهو ما يلي جانبه
(١٢٣)