ولكن لهم الإلقاء والإلهام واللقاء والكتابة وهم معصومون فيما يلقى إليهم بعلامة عندهم لا يعرفها سواهم فيخبرون بما خوطبوا به وما ألهموا به وما ألقى إليهم أو كتب فقد تقرر عند جميع المحققين الذين سلموا الخبر لقائله ولم ينظروا ولا شبهوا ولا عطلوا والمحققين الذين بحثوا واجتهدوا ونظروا على طبقاتهم أيضا والمحققين الذين كوشفوا وعاينوا والمحققين الذين خوطبوا وألهموا أن الحق تعالى لا تدخل عليه تلك الأدوات المقيدة بالتحديد والتشبيه على حد ما نعقله في المحدثات ولكن تدخل عليه بما فيها من معنى التنزيه والتقديس على طبقات العلماء والمحققين في ذلك لما فيه وتقتضيه ذاته من التنزيه وإذا تقرر هذا فقد تبين أنها أدوات التوصيل إلى أفهام المخاطبين وكل عالم على حسب فهمه فيها وقوة نفوذه وبصيرته فعقيدة التكليف هينة الخطب فطر العالم عليها ولو بقيت المشبهة مع ما فطرت عليه ما كفرت ولا جسمت وإن كان ما أرادوا التجسيم وإنما قصدوا إثبات الوجود لكن لقصور أفهامهم ما ثبت لهم إلا بهذا التخيل فلهم النجاة وإذ قد ثبت هذا عند المحققين مع تفاضل رتبهم في درج التحقيق فلنقل إن الحقائق أعطت لمن وقف عليها أن لا يتقيد وجود الحق مع وجود العالم بقبيلة ولا معية ولا بعدية زمانية فإن التقدم الزماني والمكاني في حق الله ترمي به الحقائق في وجه القائل به على التحديد اللهم إلا أن قال به من باب التوصيل كما قاله الرسول صلى الله عليه وسلم ونطق به الكتاب إذ ليس كل أحد يقوى على كشف هذه الحقائق فلم يبق لنا أن نقول إلا أن الحق موجود بذاته لذاته مطلق الوجود غير مقيد بغيره ولا معلول عن شئ ولا علة لشئ بل هو خالق المعلولات والعلل والملك القدوس الذي لم يزل وأن العالم موجود بالله تعالى لا بنفسه ولا لنفسه مقيد الوجود بوجود الحق في ذاته فلا يصح وجود العالم البتة إلا بوجود الحق وإذا انتفى الزمان عن وجود الحق وعن وجود مبدأ العالم فقد وجد العالم في غير زمان فلا نقول من جهة ما هو الأمر عليه إن الله موجود قبل العالم إذ قد ثبت أن القبل من صيغ الزمان ولا زمان ولا إن العالم موجود بعد وجود الحق إذ لا بعدية ولا مع وجود الحق فإن الحق هو الذي أوجده وهو فاعله ومخترعه ولم يكن شيئا ولكن كما قلنا الحق موجود بذاته والعالم موجود به فإن سأل سائل ذو وهم متى كان وجود العالم من وجود الحق قلنا متى سؤال زماني والزمان من عالم النسب وهو مخلوق لله تعالى لأن عالم النسب له خلق التقدير لا خلق الإيجاد فهذا سؤال باطل فانظر كيف تسأل فإياك إن تحجبك أدوات التوصيل عن تحقيق هذه المعاني في نفسك وتحصيلها فلم يبق إلا وجود صرف خالص لا عن عدم وهو وجود الحق تعالى ووجود عن عدم عين الموجود نفسه وهو وجود العالم ولا بينية بين الوجودين ولا امتداد إلا التوهم المقدر الذي يحيله العلم ولا يبقى منه شيئا ولكن وجود مطلق ومقيد وجود فاعل ووجود منفعل هكذا أعطت الحقائق والسلام (مسألة) سألني وارد الوقت عن إطلاق الاختراع على الحق تعالى فقلت له علم الحق بنفسه عين علمه بالعالم إذ لم يزل العالم مشهودا له تعالى وإن اتصف بالعدم ولم يكن العالم مشهودا لنفسه إذ لم يكن موجودا وهذا بحر هلك فيه الناظرون الذين عدموا الكشف وبنسبة لم تزل موجودة فعلمه لم يزل موجودا وعلمه بنفسه علمه بالعالم فعلمه بالعالم لم يزل موجودا فعلم العالم في حال عدمه وأوجده على صورته في علمه وسيأتي بيان هذا في آخر الكتاب وهو سر القدر الذي خفي عن أكثر المحققين وعلى هذا لا يصح في العالم الاختراع ولكن يطلق عليه الاختراع بوجه ما لا من جهة ما تعطيه حقيقة الاختراع فإن ذلك يؤدي إلى نقص في الجناب الإلهي فالاختراع لا يصح إلا في حق العبد وذلك أن المخترع على الحقيقة لا يكون مخترعا إلا حتى يخترع مثال ما يريد إبرازه في الوجود في نفسه أولا ثم بعد ذلك تبرزه القوة العملية إلى الوجود الحسي على شكل ما يعلم له مثل ومتى لم يخترع الشئ في نفسه أولا وإلا فليس بمخترع حقيقة فإنك إذا قدرت أن شخصا علمك ترتيب شكل ما ظهر في الوجود له مثل فعلمته ثم أبرزته أنت للوجود كما علمته فلست أنت في نفس الأمر وعند نفسك بمخترع له وإنما المخترع له من اخترع مثاله في نفسه ثم علمكه وإن نسب الناس الاختراع لك فيه من حيث إنهم لم يشاهدوا ذلك الشئ من غيرك فارجع أنت إلى ما تعرفه من نفسك ولا تلتفت إلى من لا يعلم ذلك منك فإن الحق سبحانه ما دبر العالم تدبير من يحصل ما ليس عنده ولا فكر فيه ولا يجوز عليه ذلك ولا اخترع في نفسه شيئا لم يكن عليه ولا قال في نفسه هل نعمله كذا وكذا هذا كله ما لا يجوز عليه فإن المخترع للشئ يأخذ أجزاء موجودة متفرقة
(٩٠)