فوجوده بمكة أسنى وأتم فكما تتفاضل المنازل الروحانية كذلك تتفاضل المنازل الجسمانية وإلا فهل الدر مثل الحجر إلا عند صاحب الحال وأما المكمل صاحب المقام فإنه يميز بينهما كما ميز بينهما الحق هل ساوى الحق بين دار بناؤها لبن التراب والتبن ودار بناؤها لبن العسجد واللجين فالحكيم الواصل من أعطى كل ذي حق حقه فذلك واحد عصره وصاحب وقته وكثير بين مدينة يكون أكثر عمارتها الشهوات وبين مدينة يكون أكثر عمارتها الآيات البينات أليس قد جمع معي صفي أبقاه الله أن وجود قلوبنا في بعض المواطن أكثر من بعض وقد كان رضي الله عنه يترك الخلوة في بيوت المنارة المحروسة الكائنة بشرقي تونس بساحل البحر وينزل إلى الرابطة التي في وسط المقابر بقرب المنارة من جهة بابها وهي تعزى إلى الخضر فسألته عن ذلك فقال إن قلبي أجده هنالك أكثر منه في المنارة وقد وجدت فيها أنا أيضا ما قاله الشيخ وقد علم وليي أبقاه الله أن ذلك من أجل من يعمر ذلك الموضع إما في الحال من الملائكة المكرمين أو من الجن الصادقين وإما من همة من كان يعمره وفقد كبيت أبي يزيد الذي يسمى بيت الأبرار وكزاوية الجنيد بالشونيزية وكمغارة ابن أدهم باليقين وما كان من أماكن الصالحين الذين فنوا عن هذه الدار وبقيت آثارهم في أماكنهم تنفعل لها القلوب اللطيفة ولهذا يرجع تفاضل المساجد في وجود القلب لا في تضاعف الأجر فقد تجد قلبك في مسجد أكثر مما تجده في غيره من المساجد وذلك ليس للتراب ولكن لمجالسة الأتراب أو هممهم ومن لا يجد الفرق في وجود قلبه بين السوق والمساجد فهو صاحب حال لا صاحب مقام ولا أشك كشفا وعلما أنه وإن عمرت الملائكة جميع الأرض مع تفاضلهم في المعارف والرتب فإن أعلاهم رتبة وأعظمهم علما ومعرفة عمرة المسجد الحرام وعلى قدر جلساتك يكون وجودك فإنه لهمم الجلساء في قلب الجليس لهم تأثيرا وهممهم على قدر مراتبهم وإن كان من جهة الهمم فقد طاف بهذا البيت مائة ألف نبي وأربعة وعشرون ألف نبي سوى الأولياء وما من نبي ولا ولي إلا وله همة متعلقة بهذا البيت وهذا البلد الحرام لأنه البيت الذي اصطفاه الله على سائر البيوت وله سر الأولية في المعابد كما قال تعالى إن أول بيت وضع للناس للذي ببكة مباركا وهدى للعالمين فيه آيات بينات مقام إبراهيم ومن دخله كان آمنا من كل مخوف إلى غير ذلك من الآيات فلو رحل الصفي أبقاه الله إلى هذا البلد الحرام الشريف لوجد من المعارف والزيادات ما لم يكن رآه قبل ذلك ولا خطر له بالبال وقد علم رضي الله عنه إن النفس تحشر على صورة علمها والجسم على صورة عمله وصورة العلم والعمل بمكة أتم مما في سواها ولو دخلها صاحب قلب ساعة واحدة لكان له ذلك فكيف إن جاور بها وأقام وأتى فيها بجميع الفرائض والقواعد فلا شك أن مشهده بها يكون أتم وأجلي ومورده أصفى وأعذب وأحلى وإذ وصفيي أبقاه الله قد أخبرني أنه يحس بالزيادة والنقص على حسب الأماكن والأمزجة ويعلم أن ذلك راجع أيضا إلى حقيقة الساكن به أو همته كما ذكرنا ولا شك عندنا إن معرفة هذا الفن أعني معرفة الأماكن والإحساس بالزيادة والنقص من تمام تمكن معرفة العارف وعلو مقامه وإشرافه على الأشياء وقوة ميزه فالله يكتب لوليي فيها أثرا حسنا ويهبه فيها خيرا طيبا إنه الملي بذلك والقادر عليه اعلم وفقنا الله وإياك وجميع المسلمين أن أكثر العلماء بالله من أهل الكشف والحقائق ليس عندهم علم بسبب بدء العالم إلا تعلق العلم القديم بإيجاده فكون ما علم أنه سيكونه وهنا ينتهي أكثر الناس وأما نحن ومن أطلعه الله على ما أطلعنا عليه فقد وقفنا على أمور أخر غير هذا وذلك أنك إذا نظرت العالم مفصلا بحقائقه ونسبه وجدته محصور الحقائق والنسب معلوم المنازل والرتب متناهي الأجناس بين متماثل ومختلف فإذا وقفت على هذا الأمر علمت إن لهذا سرا لطيفا وأمرا عجيبا لا تدرك حقيقته بدقيق فكر ولا نظر بل بعلم موهوب من علوم الكشف ونتائج المجاهدات المصاحبة للهمم فإن مجاهدة بغير همة غير منتجة شيئا ولا مؤثرة في العلم ولكن تؤثر في الحال من رقة وصفاء يجده صاحب المجاهدة فاعلم علمك الله سرائر الحكم ووهبك من جوامع الكلم أن الأسماء الحسنى التي تبلغ فوق أسماء الإحصاء عددا وتنزل دون أسماء الإحصاء سعادة هي المؤثرة في هذا العالم وهي المفاتح الأول التي لا يعلمها إلا هو وأن لكل حقيقة اسما ما يخصها من الأسماء وأعني بالحقيقة حقيقة تجمع جنسا من الحقائق رب تلك الحقيقة ذلك الاسم وتلك الحقيقة عابدته وتحت تكليفه ليس غير ذلك وإن جمع لك شئ ما أشياء كثيرة فليس الأمر على ما توهمته فإنك إن نظرت إلى
(٩٩)