لهم الحدود ووضع لهم المراسم لإصلاح المملكة وليبلوهم أيهم أحسن عملا وجعل الله ذلك على قسمين قسم يسمى سياسة حكمية ألقاها في فطر نفوس الأكابر من الناس فحدوا حدودا ووضعوا نواميس بقوة وجدوها في نفوسهم كل مدينة وجهة وإقليم بحسب ما يقتضيه مزاج تلك الناحية وطباعهم لعلمهم بما تعطيه الحكمة فانحفظت بذلك أموال الناس ودماؤهم وأهلوهم وأرحامهم وأنسابهم وسموها نواميس ومعناها أسباب خير لأن الناموس في العرف الاصطلاحي هو الذي يأتي بالخير والجاسوس يستعمل في الشر فهذه هي النواميس الحكمية التي وضعها العقلاء عن إلهام من الله من حيث لا يشعرون لمصالح العالم ونظمه وارتباطه في مواضع لم يكن عندهم شرع إلهي منزل ولا علم لواضع هذه النواميس بأن هذه الأمور مقربة إلى الله ولا تورث جنة ولا نارا ولا شيئا من أسباب الآخرة ولا علموا أن ثم آخرة وبعثا محسوسا بعد الموت في أجسام طبيعية ودارا فيها أكل وشرب ولباس ونكاح وفرح ودارا فيها عذاب وآلام فإن وجود ذلك ممكن وعدمه ممكن ولا دليل لهم في ترجيح أحد الممكنين بل رهبانية ابتدعوها فلهذا كان مبني نواميسهم ومصالحهم على إبقاء الصلاح في هذه الدار ثم انفردوا في نفوسهم بالعلوم الإلهية من توحيد الله وما ينبغي لجلاله من التعظيم والتقديس وصفات التنزيه وعدم المثل والتشبيه ونبه من يدري ومن علم ذلك من لا يدري وحرضوا الناس على النظر الصحيح وأعلموهم أن للعقول من حيث أفكارها حدا تقف عنده لا تتجاوزه وأن لله على قلوب بعض عباده فيضا إلهيا يعلمهم فيه من لدنه علما ولم يبعد ذلك عندهم وإن الله قد أودع في العالم العلوي أمورا استدلوا عليها بوجود آثارها في العالم العنصري وهو قوله تعالى وأوحى في كل سماء أمرها فبحثوا عن حقائق نفوسهم لما رأوا أن الصورة الجسدية إذا ماتت ما نقص من أعضائها شئ فعلموا أن المدرك والمحرك لهذا الجسد إنما هو أمر آخر زائد عليه فبحثوا عن ذلك الأمر الزائد فعرفوا نفوسهم ثم رأوا أنه يعلم بعد ما كان يجهل فعلموا أنها وإن كانت أشرف من أجسادها فإن الفقر والفاقة يصحبها فاعتلوا بالنظر من شئ إلى شئ وكلما وصلوا إلى شئ رأوه مفتقرا إلى شئ آخر حتى انتهى بهم النظر إلى شئ لا يفتقر إلى شئ ولا مثله شئ ولا يشبه شيئا ولا يشبهه شئ فوقفوا عنده وقالوا هذا هو الأول وينبغي أن يكون واحدا لذاته من حيث ذاته وأن أوليته لا تقبل الثاني ولا أحديته لأنه لا شبه له ولا مناسب فوحدوه توحيد وجود ثم لما رأوا أن الممكنات لأنفسها لا تترجح لذاتها علموا أن هذا الواحد أفادها الوجود فافتقرت إليه وعظمته بأن سلبت عنه جميع ما تصف ذواتها به فهذا حد العقل فبينا هم كذلك إذ قام شخص من جنسهم لم يكن عندهم من المكانة في العلم بحيث أن يعتقدوا فيه أنه ذو فكر صحيح ونظر صائب فقال لهم أنا رسول الله إليكم فقالوا الإنصاف أولى انظروا في نفس دعواه هل ادعى ما هو ممكن أو ادعى ما هو محال فقالوا إنه قد ثبت عندنا بالدليل أن لله فيضا إلهيا يجوز أن يمنحه من يشاء كما أفاض ذلك على أرواح هذه الأفلاك وهذه العقول والكل قد اشتركوا في الإمكان وليس بعض الممكنات بأولى من بعض فيما هو ممكن فما بقي لنا نظر إلا في صدق هذا المدعي أو كذبه ولا نقدم على شئ من هذين الحكمين بغير دليل فإنه سوء أدب مع علمنا فقالوا هل لك دليل على صدق ما تدعيه فجاءهم بالدلائل فنظروا في دلالته وفي أدلته ونظروا أن هذا الشخص ما عنده خبر مما تنتجه الأفكار ولا عرف منه فعلموا إن الذي أوحى في كل سماء أمرها كان مما أوحاه في كل سماء وجود هذا الشخص وما جاء به فأسرعوا إليه بالإيمان به وصدقوه وعلموا أن الله قد أطلعه على ما أودعه في العالم العلوي من المعارف ما لم تصل إليه أفكارهم ثم أعطاه من المعرفة بالله ما لم يكن عندهم ورأوا نزوله في المعارف بالله إلى العامي الضعيف الرأي بما يصلح لعقله من ذلك وإلى الكبير العقل الصحيح النظر بما يصلح لعقله من ذلك فعلموا أن الرجل عنده من الفيض الإلهي ما هو وراء طور العقل وأن الله قد أعطاه من العلم به والقدرة عليه ما لم يعطه إياهم فقالوا بفضله وتقدمه عليهم وآمنوا به وصدقوه واتبعوه فعين لهم الأفعال المقربة إلى الله تعالى وأعلمهم بما خلق الله من الممكنات فيما غاب عنهم وما يكون منه سبحانه فيهم في المستقبل وجاءهم بالبعث والنشور والحشر والجنة والنار ثم إنه تتابعت الرسل على اختلاف الأزمان واختلاف الأحوال وكل واحد منهم يصدق صاحبه ما اختلفوا قط في الأصول التي استندوا إليها وعبروا عنها وإن اختلفت الأحكام فتنزلت الشرائع ونزلت الأحكام وكان الحكم بحسب الزمان والحال كما قال تعالى
(٣٢٤)