صورة حسية حقيقة فلا يكون للحس فضل على الخيال لأن الحس يعطي الصور للخيال فكيف يكون المؤثر فيه مؤثرا فيمن هو مؤثر فيه فما هو مؤثر فيما هو مؤثر فيه وهذا محال عقلا فتفطن لهذه الكنوز فإن كنت حصلتها ما يكون في العالم أعني منك إلا من يساويك في ذلك واعلم أن رسول الله صلى الله عليه وسلم لما سئل عن الصور ما هو فقال صلى الله عليه وسلم هو قرن من نور ألقمه إسرافيل فأخبر أن شكله شكل القرن فوصف بالسعة والضيق فإن القرن واسع ضيق وهو عندنا على خلاف ما يتخيله أهل النظر في الفرق بين ما هو أعلى القرن وأسفله ونذكره إن شاء الله بعد هذا في هذا الباب فاعلم إن سعة هذا القرن في غاية السعة لا شئ من الأكوان أوسع منه وذلك أنه يحكم بحقيقته على كل شئ وعلى ما ليس بشئ ويتصور العدم المحض والمحال والواجب والإمكان ويجعل الوجود عدما والعدم وجودا وفيه يقول النبي صلى الله عليه وسلم أي من حضرة هذا اعبد الله كأنك تراه والله في قبلة المصلي أي نخيله في قبلتك وأنت تواجهه لتراقبه وتستحيي منه وتلزم الأدب معه في صلاتك فإنك إن لم تفعل هذا أسأت الأدب فلولا أن الشارع علم أن عندك حقيقة تسمى الخيال لها هذا الحكم ما قال لك كأنك تراه ببصرك فإن الدليل العقلي بمنع من كان فإنه يحيل بدليله التشبيه والبصر فما أدرك شيئا سوى الجدار فعلمنا إن الشارع خاطبك أن تتخيل أنك تواجه الحق في قبلتك المشروع لك استقبالها والله يقول فأينما تولوا فثم وجه الله ووجه الشئ حقيقته وعينه فقد صور الخيال من يستحيل عليه بالدليل العقلي الصورة والتصور فلهذا كان واسعا وأما ما فيه من الضيق فإنه ليس في وسع الخيال أن يقبل أمرا من الأمور الحسية والمعنوية والنسب والإضافة وجلال الله وذاته إلا بالصورة ولو رام أن يدرك شيئا من غير صورة لم تعط حقيقته ذلك لأنه عين الوهم لا غيره فمن هنا هو ضيق في غاية الضيق فإنه لا يجرد المعاني عن المواد أصلا ولهذا كان الحس أقرب شئ إليه فإنه من الحس أخذ الصور وفي الصور الحسية يجلي المعاني فهذا من ضيقه وإنما كان هذا حتى لا يتصف بعدم التقييد وبإطلاق الوجود وبالفعال لما يريد إلا الله تعالى وحده ليس كمثله شئ فالخيال أوسع المعلومات ومع هذه السعة العظيمة التي يحكم بها على كل شئ قد عجز أن يقبل المعاني مجردة عن المواد كما هي في ذاتها فيرى العلم في صورة لبن أو عسل وخمر ولؤلؤ ويرى الإسلام في صورة قبة وعمد ويرى القرآن في صورة سمن وعسل ويرى الدين في صورة قيد ويرى الحق في صورة إنسان وفي صورة نور فهو الواسع الضيق والله واسع على الإطلاق عليم بما أوجد الله عليه خلقه كما قال تعالى أعطى كل شئ خلقه ثم هدى أي بين الأمور على ما هي عليه بإعطاء كل شئ خلقه وأما كون القرن من نور فإن النور سبب الكشف والظهور إذ لولا النور ما أدرك البصر شيئا فجعل الله هذا الخيال نورا يدرك به تصوير كل شئ أي أمر كان كما ذكرناه فنوره ينفذ في العدم المحض فيصوره وجودا فالخيال أحق باسم النور من جميع المخلوقات الموصوفة بالنورية فنوره لا يشبه الأنوار وبه تدرك التجليات وهو نور عين الخيال لا نور عين الحس فافهم فإنه ينفعك معرفة كونه نورا فتعلم الإصابة فيه ممن لا يعلم ذلك وهو الذي يقول هذا خيال فاسد وذلك لعدم معرفة هذا القائل بإدراك النور الخيالي الذي أعطاه الله تعالى كما إن هذا القائل يخطئ الحس في بعض مدركاته وإدراكه صحيح والحكم لغيره لا إليه فالحاكم أخطأ لا الحس كذلك الخيال أدرك بنوره ما أدرك وما له حكم وإنما الحكم لغيره وهو العقل فلا ينسب إليه الخطاء فإنه ما ثم خيال فاسد قط بل هو صحيح كله وأما أصحابنا فغلطوا في هذا القرن فأكثر العقلاء جعل أضيقه المركز وأعلاه الفلك الأعلى الذي لا فلك فوقه وأن الصور التي يحوي عليها صور العالم فجعلوا واسع القرن الأعلى وضيقه الأسفل من العالم وليس الأمر كما زعموا بل لما كان الخيال كما قلنا يصور الحق فمن دونه من العالم حتى العدم كان أعلاه الضيق وأسفله الواسع وهكذا خلقه الله فأول ما خلق منه الضيق وآخر ما خلق منه ما اتسع وهو الذي يلي رأس الحيوان ولا شك أن حضرة الأفعال والأكوان أوسع ولهذا لا يكون للعارف اتساع في العلم إلا بقدر ما يعلمه من العالم ثم إنه إذا أراد أن ينتقل إلى العلم بأحدية الله تعالى لا يزال يرقى من السعة إلى الضيق قليلا قليلا فتقل علومه كلما رقى في العلم بذات الحق كشفا إلى أن لا يبقى له معلوم إلا الحق وحده وهو أضيق ما في القرن فضيقه هو الأعلى على الحقيقة وفيه الشرف التام وهو الأول الذي نظهر منه إذا أنبته الله في رأس الحيوان فلا يزال يصعد على صورته من الضيق وأسفله تسع وهو لا يتغير عن حاله
(٣٠٦)