الوهب لا علم الكسب فإنه لو أراد الله العلم المكتسب لم يقل أوتيتم بل كان يقول أوتيتم الطريق إلى تحصيله لا هو وكان يقول في خضر وعلمناه طريق اكتساب العلوم لم يقل شيئا من هذا ونحن نعلم أن ثم علما اكتسبناه من أفكارنا ومن حواسنا وثم علما لم نكتسبه بشئ من عندنا بل هبة من الله عز وجل أنزله في قلوبنا وعلى أسرارنا فوجدناه من غير سبب ظاهر وهي مسألة دقيقة فإن أكثر الناس يتخيلون أن العلوم الحاصلة عن التقوى علوم وهب وليست كذلك وإنما هي علوم مكتسبة بالتقوى فإن التقوى جعلها الله طريقا إلى حصول هذا العلم فقال إن تتقوا الله يجعل لكم فرقانا وقال واتقوا الله ويعلمكم الله كما جعل الفكر الصحيح سببا لحصول العلم لكن بترتيب المقدمات كما جعل البصر سببا لحصول العلم بالمبصرات والعلم الوهبي لا يحصل عن سبب بل من لدنه سبحانه فاعلم ذلك حتى لا تختلط عليك حقائق الأسماء الإلهية فإن الوهاب هو الذي تكون أعطياته على هذا الحد بخلاف الاسم الإلهي الكريم والجواد والسخي فإنه من لا يعرف حقائق الأمور لا يعرف حقائق الأسماء الإلهية ومن لا يعرف حقائق الأسماء الإلهية لا يعرف تنزيل الثناء على الوجه اللائق به فلهذا نبهتك لتنتبه فلا تكونن من الجاهلين فالنبوات كلها علوم وهبية لأن النبوة ليست مكتسبة فالشرائع كلها من علوم الوهب عند أهل الإسلام الذين هم أهله وأريد بالاكتساب في العلوم ما يكون للعبد فيه تعمل كما إن الوهب ما ليس للعبد فيه تعمل وإنما قلنا هذا من أجل الاستعدادات التي جعلت العالم يقبل هذا العلم الوهبي والكسبي فإنه لا بد من الاستعداد فإن وجد بعض الاستعدادات مما يتعمل الإنسان في تحصيلها كان العلم الحاصل عنها مكتسبا كمن عمل بما علم فأورثه الله علم ما لم يكن يعلم وأشباه ذلك فالشرائع كلها علوم وهبية وممن حصل علوم وهب مما ليس بشرع جماعة قليلة من الأولياء منهم الخضر على التعيين فإنه قال من لدنه والذي عرفناه من الأنبياء عليهم السلام آدم وإلياس وزكريا ويحيى وعيسى وإدريس وإسماعيل وإن كان قد حصله جميع الأنبياء عليهم السلام ولكن ما ذكرنا منهم إلا من حصل لنا التعريف به وسموا لنا من الوجه الذي نأخذ عن الله تعالى منه فلهذا سمينا هؤلاء ولم نذكر غيرهم فأما قوله تعالى وما أوتيتم من العلم إلا قليلا فليس بنص في الوهب ولكن له وجهان وجه يطلبه أوتيتم ووجه يطلبه قليلا من الاستقلال أي ما أعطيتم من العلم إلا ما تستقلون نجمله وما لا تطيقونه ما أعطيناكموه فإنكم ما تستقلون به فيدخل في هذا العطاء علوم النظر فإنها علوم تستقل العقول بإدراكها واختلف أصحابنا في العلم المحدث هل يتعلق بما لا يتناهى من المعلومات أم لا فمن منع أن تعرف ذات الله منع من ذلك ومن لم يمنع من ذلك لم يمنع حصوله ولكن ما نقل إلينا إنه حصل لأحد في الدنيا وما أدري في الآخرة ما يكون فإنا قد علمنا أن محمدا صلى الله عليه وسلم قد علم علم الأولين والآخرين وقد قال صلى الله عليه وسلم عن نفسه إنه يحمد الله غدا يوم القيامة بمحامد عند ما يطلب من الله عز وجل فتح باب الشفاعة أخبر أن الله تعالى يعلمه إياها في ذلك الوقت لا يعلمها الآن فلو علمها غيره لم يصدق قوله علمت علم الأولين والآخرين وهو صلى الله عليه وسلم الصادق في قوله فحصل من هذا إن أحدا لم يتعلق علمه بما لا يتناهى ولهذا ما تكلم الناس إلا في إمكانه هل يمكن أم لا وما كل ممكن واقع ووقوع الممكنات من المسائل المغلقة وكيف يكون ثم ممكن ولا يقع وهو المعقول عندنا في كل وقت فإن ترجيح أحد الممكنين أو الممكنات يمنع من وقوع ما ليس بمرجح في الحال فإن كان الذي لم يقع في الوجود من الممكنات مرجحا عدم وقوعه في الوجود فيكون عدمه مرجحا فقد وقع الممكن فإنه لا يلزم فيه من حيث الإمكان إلا اتصافه بكونه مرجحا سواء ترجح عدمه أو وجوده وإذا كان كذلك فقد وقع كل ممكن بلا شك وإن لم تتناه الممكنات فإن الترجيح ينسحب عليها وهي مسألة دقيقة فإن الممكنات وإن كانت لا تتناهى وهي معدومة فإنها عندنا مشهودة للحق عز وجل من كونه يرى فإنا لا نعلل الرؤية بالوجود وإنما نعلل الرؤية للأشياء بكون المرئي مستعد القبول تعلق الرؤية به سواء كان معدوما أو موجودا وكل ممكن مستعد للرؤية فالممكنات وإن لم تتناه فهي مرئية لله عز وجل لا من حيث نسبة العلم بل من نسبة خري تسمى رؤية كانت ما كانت قال تعالى ألم يعلم بأن الله يرى ولم يقل هنا ألم يعلم بأن الله يعلم وقال تجري بأعيننا أي بحيث نراها وقال أيضا لموسى وهارون إنني معكما أسمع وأرى والله يقول الحق وهو يهدي السبيل انتهى الجزء الرابع والعشرون
(٢٥٤)