الساحل رأوا الساحل يجري بجري السفينة فقد أعطاهم البصر ما ليس بحقيقة ولا معلوم أصلا فإنهم عالمون علما ضروريا أن الساحل لم يتحرك من مكانه ولا يقدرون على إنكار ما شاهدوه من التحرك وكذلك إذا طعموا سكرا أو عسلا فوجدوه مرا وهو حلو فعلموا ضرورة أن حاسة الطعم غلطت عندهم ونقلت ما ليس بصحيح والأمر عندنا ليس كذلك ولكن القصور والغلط وقع من الحاكم الذي هو العقل لا من الحواس فإن الحواس إدراكها لما تعطيه حقيقتها ضروري كما إن العقل فيما يدركه بالضرورة لا يخطئ وفيما يدركه بالحواس أو بالفكر قد يغلط فما غلط حس قط ولا ما هو إدراكه ضروري فلا شك أن الحس رأى تحركا بلا شك ووجد طعما مرا بلا شك فأدرك البصر التحرك بذاته وأدرك الطعم قوة المرارة بذاته وجاء عقل فحكم إن الساحل متحرك وأن السكر مر وجاء عقل آخر وقال إن الخلط الصفراوي قام بمحل الطعم فأدرك المرارة وحال ذلك الخلط بين قوة الطعم وبين السكر فاذن فما ذاق الطعم إلا مرارة الصفراء فقد أجمع العقلان من الشخصين على أنه أدرك المرارة بلا شك واختلف العقلان فيما هو المدرك للطعم فبان إن العقل غلط لا الحس فلا ينسب الغلط أبدا في الحقيقة إلا للحاكم لا للشاهد وعندي في هذه المسألة أمر آخر يخالف ما ادعوه وهو أن الحلاوة التي في الحلو وغير ذلك من المطعومات ليس هو في المطعوم لأمر إذا بحثت عليه وجدت صحة ما ذهبنا إليه وكذا الحكم في سائر الإدراكات ولو كان في العادة فوق العقل مدرك آخر يحكم على العقل ويأخذ عنه كما يحكم العقل على الحس لغلط أيضا ذلك المدرك الحاكم فيما هو للعقل ضروري وكان يقول إن العقل غلط فيما هو له ضروري فإذا تقرر هذا وعرفت كيف رتب الله المدركات والإدراكات وأن ذلك الارتباط أمر عادي فاعلم إن لله عبادا آخرين خرق لهم العادة في إدراكهم العلوم فمنهم من جعل له إدراك ما يدرك بجميع القوي من المعقولات والمحسوسات بقوة البصر خاصة وآخر بقوة السمع وهكذا بجميع القوي ثم بأمور عرضية خلاف القوي من ضرب وحركة وسكون وغير ذلك قال رسول الله صلى الله عليه وسلم إن الله ضرب بيده بين كتفي فوجدت برد أنامله بين ثديي فعلمت علم الأولين والآخرين فدخل في هذا العلم كل معلوم معقول ومحسوس مما يدركه المخلوق فهذا علم حاصل لا عن قوة من القوي الحسية والمعنوية فلهذا قلنا إن ثم سببا آخر خلاف هذه القوي تدرك به المعلومات وإنما قلنا قد تدرك العلوم بغير قواها المعتادة فحكمنا على هذه الإدراكات لمدركاتها المعتادة بالعادة من أجل المتفرس فينظر صاحب الفراسة في الشخص فيعلم ما يكون منه أو ما خطر له في باطنه أو ما فعل وكذلك الزاجر وأشباهه وإنما جئنا بهذا كله تأنيسا لما نريد أن ننسبه إلى أهل الله من الأنبياء والأولياء فيما يدركونه من العلوم على غير الطرق المعتادة فإذا أدركوها نسبوا إلى تلك الصفة التي أدركوا بها المعلومات فيقولون فلان صاحب نظر أي بالنظر يدرك جميع المعلومات وهذا ذقته مع رسول الله صلى الله عليه وسلم وفلان صاحب سمع وفلان صاحب طعم وصاحب نفس وأنفاس يعني الشم وصاحب لمس وفلان صاحب معنى وهذا خارج عن هؤلاء بل هو كما يقال في العامة صاحب فكر صحيح فمن الناس من أعطى النظر إلى آخر القوي على قدر ما أعطى وهو له عادة إذا استمر ذلك عليه لأنه مشتق من العود أي يعود ذلك عليه في كل نظرة أو في كل شم ما ثم غير ذلك وكذلك أيضا لتعلم إن الأسماء الإلهية مثل هذا وأن كل اسم يعطي حقيقة خاصة ففي قوته أن يعطي كل واحد من الأسماء الإلهية ما تعطيه جميع الأسماء قال تعالى قل ادعوا الله أو ادعوا الرحمن أيا ما تدعوا فله الأسماء الحسنى وكذلك لو ذكر كل اسم لقال فيه إن له الأسماء الحسنى وذلك لاحدية المسمى فاعلم ذلك فمن الناس من يختص به الاسم الله فتكون معارفه إلهية ومنهم من يختص به الاسم الرحمن فتكون معارفه رحمانية كما كانت في القوي الكونية يقال فيها معارف هذا الشخص نظرية وفي حق آخر سمعية فهو من عالم النظر وعالم السمع وعالم الأنفاس هكذا تنسب معارفه في الإلهيات إلى الاسم الإلهي الذي فتح له فيه فتندرج فيه حقائق الأسماء كلها فإذا علمت هذا أيضا فاعلم إن الذي يختص بهذا الباب من الأسماء الإلهية لهذا الشخص المعين الاسم الرحمن والذي يختص به من القوي فينسب إليها قوة الشم ومتعلقها الروائح وهي الأنفاس فهو من عالم الأنفاس في نسبة القوي ومن الرحمانيين في مراتب الأسماء فنقول إن هذا الشخص المعين في هذا الباب سواء كان زيدا أو عمرا معرفته رحمانية فكل أمر ينسب إلى الاسم الرحمن
(٢١٤)