نفسها وما ظهر للحس من ذلك من قول وعمل وما نوته في ذلك الخاطر والحديث فقلت الخواطر والفضول إلا فيما يعني فهذا فائدة هذا الباب وفائدة الاشتغال بالنية وما في الطريق ما يغفل عنه أكثر من هذا الباب فإن ذلك راجع إلى مراعاة الأنفاس وهي عزيزة وبعد أن عرفتك بأصول هذه الطائفة وما هو سبب شغلهم بذلك وأنه لهم أمر شرعي وما لهم في ذلك من الأسرار والعلوم فاعلم أيضا مقامهم في ذلك وما لهم فهذه الطائفة على قلب يونس عليه السلام فإنه لما ذهب مغاضبا وظن أن الله لا يضيق عليه لما عهده من سعة رحمة الله فيه وما نظر ذلك الاتساع الإلهي الرحماني في حق غيره فتناله أمته واقتصر به على نفسه والغضب ظلمة القلب فأثرت لعلو منصبه في ظاهره فاسكن في ظلمة بطن الحوت ما شاء الله لينبهه الله على حالته حين كان جنينا في بطن أمه من كان يدبره فيه وهل كان في ذلك الموطن يتصور منه أن يغاضب أو يغاضب بل كان في كنف الله لا يعرف سوى ربه فرده إلى هذه الحالة في بطن الحوت تعليما له بالفعل لا بالقول فنادى في الظلمات أن لا إله إلا أنت عذرا عن أمته في هذا التوحيد أي تفعل ما تريد وتبسط رحمتك على من تشاء سبحانك إني كنت من الظالمين مشتق من الظلمة أي ظلمتي عادت على ما أنت ظلمتني بل ما كان في باطني سرى إلى ظاهري وانتقل النور إلى باطني فاستنار فأزال ظلمة المغاضبة وانتشر فيه نور التوحيد وانبسطت الرحمة فسرى ذلك النور في ظاهره مثل ما سرت ظلمة الغضب فاستجاب له ربه فنجاه من الغم فقذفه الحوت من بطنه مولودا على الفطرة السليمة فلم يولد أحد من ولد آدم ولادتين سوى يونس عليه السلام فخرج ضعيفا كالطفل كما قال وهو سقيم ورباه باليقطين فإن ورقه ناعم ولا ينزل عليه ذباب فإن الطفل لضعفه لا يستطيع أن يزيل الذباب عن نفسه فغطاه بشجرة خاصيتها أن لا يقربها ذباب مع نعمة ورقها فإن ورق اليقطين مثل القطن في النعمة بخلاف سائر ورق الأشجار كلها فإن فيها خشونة وأنشأه الله عز وجل نشأة أخرى ولما رأت هذه الطائفة أن يونس عليه السلام ما أتى عليه إلا من باطنه من الصفة التي قامت به ومن قصده شغلوا نفوسهم بتمحيص النيات والقصد في حركاتهم كلها حتى لا ينوون إلا ما أمرهم الله به أن ينووه ويقصدوه وهذا غاية ما يقدر عليه رجال الله وهذه الطائفة في الرجال قليلون فإنه مقام ضيق جدا يحتاج صاحبه إلى حضور دائم وأكبر من كان فيه أبو بكر الصديق رضي الله عنه ولهذا قال عمر بن الخطاب رضي الله عنه فيه في حرب اليمامة فما هو إلا أن رأيت أن الله عز وجل قد شرح صدر أبي بكر للقتال فعرفت أنه الحق لمعرفة عمر باشتغال أبي بكر بباطنه فإذا صدرت منه حركة في ظاهره فما تصدر إلا من إل وهو عزيز ولهذا كان من يفهم المقامات من المتقدمين من أهل الكتاب إذا سمعوا أو يقال لهم إن رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول كذا وكذا يقولون هذا كلام ما خرج إلا من إل أي هو كلام إلهي ما هو كلام مخلوق فانظر ما أحسن العلم وفي أي مقام ثبتت هذه الطائفة وبأي قائمة استمسكت جعلنا الله منهم فجل أعمالهم في الباطن مساكن السائحين منهم الغيران والكهوف وفي الأمصار ما بناه غيرهم من عباد الله تعالى لا يضعون لبنة على لبنة ولا قصبة على قصبة وهكذا كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى أن انتقل إلى ربه ما بنى قط مسكنا لنفسه وسبب ذلك أنهم رأوا الدنيا جسرا منصوبا من خشب على نهر عظيم وهم عابرون فيه راحلون عنه فهل رأيتم أحدا بنى منزلا على جسر خشب لا والله ولا سيما وقد عرف أن الأمطار تنزل وأن النهر يعظم بالسيول التي تأتي وأن الجسور تنقطع فكل من بنى على جسر فإنما يعرض به للتلف فلو أن عمار الدنيا يكشف الله عن بصيرتهم حتى يروها جسرا ويروا النهر الذي بنيت عليه أنه خطر قوي ما بنوا الذي بنوا عليه من القصور المشيدة فلم يكن لهم عيون يبصرون بها إن الدنيا قنطرة خشب على نهر عظيم خرار ولا كان لهم سمع يسمعون به قول الرسول العالم بما أوحى الله إليه به إن الدنيا قنطرة فلا بالإيمان عملوا ولا على الرؤية والكشف حصلوا فهم كما قال الله فيهم وحسبوا أن لا تكون فتنة فعموا وصموا ثم تاب الله عليهم في حال سماعهم من الرسول صلى الله عليه وسلم حين قال لهم إن الدنيا قنطرة وأشباه ذلك فلا تشغلوا نفوسكم بعمارتها وانهضوا فما فرع من قوله صلى الله عليه وسلم حتى رجع كثير منهم إلى عماهم وصممهم مع كونهم مسلمين مؤمنين فأخبر الله تعالى نبيه بقوله ثم عموا وصموا كثير منهم بعد التوبة يقول ما نفع القول فيهم يا ولي لو فرضنا إن الدنيا باقية ألسنا نبصر رحلتنا عنها جيلا بعد جيل فمن أحوال هذه الطائفة مراعاتهم
(٢١٢)