أضاف سبحانه هذه الرحمة إلى التسع والتسعين رحمة فكانت مائة فأرسلها على عباده مطلقة في الدارين فسرت الرحمة فوسعت كل شئ فمنهم من وسعته بحكم الوجوب ومنهم من وسعته بحكم الامتنان فوسعت كل شئ في موطنه وفي عين شيئيته فتنعم المحرور بالزمهرير والمقرور بالسعير ولو جاء لكل واحد من هذين حال الاعتدال لتعذب فإذا اطلع أهل الجنان على أهل النار زادهم نعيما إلى نعيمهم فوزهم ولو اطلع أهل النار على أهل الجنان لتعذبوا بالاعتدال لما هم فيه من الانحراف ولهذا قابلهم بالنقيض من عموم المائة رحمة وقد كان الحكم في الدنيا بالرحمة الدنيا ما قد علمتم وهي الآن أعني في الآخرة من جملة المائة فما ظنك وكفى فبمثل هذا النظر يقول العارف في الصلاة الرحمن الرحيم ومن هنا يعرف ما يجيبه الحق به من هذا نظره ثم قال الله يقول العبد ملك يوم الدين يقول الله مجدني عبدي وفي رواية فوض إلى عبدي هذا جواب عام ورد عام كما قررنا ما المراد به فإذا قال العارف ملك يوم الدين لم يقتصر على الدار الآخرة بيوم الدين ورأى أن الرحمن الرحيم لا يفارقان ملك يوم الدين فإنه صفة لهما فيكون الجزاء دنيا وآخرة وكذلك ظهر بما شرع من إقامة الحدود وظهور الفساد في البر والبحر بما كسبت أيدي الناس ليذيقهم بعض الذي عملوا لعلهم يرجعون وهذا هو عين الجزاء فيوم الدنيا أيضا يوم الجزاء والله ملك يوم الدين فيرى العارف أن الكفارات سارية في الدنيا وأن الإنسان في الدار الدنيا لا يسلم من أمر يضيق به صدره ويؤلمه حسا وعقلا حتى قرصة البرغوث والعثرة فالآلام محدودة موقتة ورحمة الله تعالى غير موقتة فإنها وسعت كل شئ فمنها ما تنال وتحكم من طريق الامتنان وهو أصل الأخذ لها الامتنان ومنها ما يؤخذ من طريق الوجوب الإلهي في قوله كتب ربكم على نفسه الرحمة وقوله فسأكتبها فالناس يأخذونها جزاء وبعض المخلوقات من المكلفين تنالهم امتنانا حيث كانوا فافهم فكل ألم في الدنيا والآخرة فإنه مكفر لأمور قد وقعت محدودة موقتة وهو جزاء لمن يتألم به من صغير وكبير بشرط تعقل التألم لا بطريق الإحساس بالتألم دون تعقله وهذا المدرك لا يدركه إلا من كشف له فالرضيع لا يتعقل التألم مع الإحساس به إلا أن أباه وأمه وأمثالهما من محبيه وغير محبيه يتألم ويتعقل التألم لما يرى في الرضيع من الأمراض النازلة به فيكون ذلك كفارة لمتعقل الألم فإن زاد ذلك العاقل الترحم به كان مع التكفير عنه مأجورا إذ في كل كبد رطبة أجر وكل كبد فإنها رطبة لأنها بيت الدم والدم حار رطب طبع الحياة وأما الصغير إذا تعقل التألم وطلب النفور عن الأسباب الموجبة للألم واجتنبها فإن له كفارة فيها لما صدر منه مما آلم به غيره من حيوان أو شخص آخر من جنسه أو إباية عما تدعوه إليه أمه أو أبوه أو سائل يسأله أمرا ما فأبى عليه فتألم السائل حيث لم يقض حاجته هذا الصغير فإذا تألم الصغير كان ذلك الألم القائم به جزاء مكفرا لما آلم به ذلك السائل بإبايته عما التمسه منه في سؤاله أو كان قد أذي حيوانا من ضرب كلب بحجر أو قتل برغوث وقملة أو وطء نملة برجله فقتلها أو كل ما جرى منه بقصد وبغير قصد وسر هذا الأمر عجيب سار في الموجودات حتى الإنسان يتألم بوجود الغيم ويضيق صدره به فإنه كفارة لأمور أتاها قد نسيها أو يعلمها فهذا كله يراه أهل الكشف محققا في قوله ملك يوم الدين فيقول الله فوض إلى عبدي أو مجدني عبدي أو كلاهما إلا أن التمجيد راجع إلى جناب الحق من حيث ما تقتضيه ذاته ومن حيث ما تقتضي نسبة العالم إليه والتفويض من حيث ما تقتضي نسبة العالم إليه لا غير فإنه وكيل لهم بالوكالة المفوضة ففي حق قوم يقول مجدني عبدي وفي المقصد وفي حق قوم يقول فوض إلى عبدي وفي المقصد أيضا فإن العبد قد يجمع بين المقصدين فيجمع الله له في الرد بين التمجيد والتفويض فهذا النصف كله مخلص لجناب الله ليس للعبد فيه اشتراك ثم قال الله يقول العبد إياك نعبد وإياك نستعين يقول الله هذه بيني وبين عبدي ولعبدي ما سأل فهذه الآية تتضمن سائلا ومسئولا مخاطبا وهو الكاف من إياك فيهما ونعبد ونستعين هما للعبد فإنه العابد والمستعين فإذا قال العبد إياك وحد الحق بحرف الخطاب فجعله مواجها لا على جهة التحديد ولكن امتثالا لقول الشارع لمثل ذلك السائل في معرض التعليم حين سأله عن الإحسان فقال له صلى الله عليه وسلم أن تعبد الله كأنك تراه فلا بد أن تواجهه بحرف الخطاب وهو الكاف أو حرف التاء المنصوبة في المذكر المخفوضة في المؤنث فإني قد أنث الخطاب من حيث الذات وهذا مشهد خيالي فهو برزخي وجاءت هذه الآية برزخية وقع فيها الاشتراك بين الحق وبين عبده وما مضى من الفاتحة مخلص لله
(٤٢٤)