وما بقي منها مخلص للعبد وهذه التي نحن فيها مشتركة وإنما وحده ولم يجمعه لأن المعبود واحد وجمع نفسه بنون الجمع في العبادة والعون المطلوب لأن العابدين من العبد كثيرون وكل واحد من العابدين يطلب العون والمقصود بالعبادات واحد فعلى العين عبادة وعلى السمع والبصر واللسان واليد والبطن والفرج والرجل والقلب فلهذا قال نعبد ونستعين بالنون وإن العالم نظر إلى تفاصيل عالمه وإن الصلاة قد عم حكمها جميع حالاته ظاهرا وباطنا لم ينفرد بذلك جزء عن آخر فإنه يقف بكله ويركع بكله ويجلس بكله فجميع عالمه قد اجتمع على عبادة ربه وطلب المعونة منه على عبادته فجاء بنون الجماعة في نعبد ونستعين فترجم اللسان عن الجماعة كما يتكلم الواحد عن الوفد بحضورهم بين يدي الملك فعلم العبد من الحق لما أنزل عليه هذه الآية بإفراده نفسه أن لا يعبد إلا إياه ولما قيد العبد بالنون أنه يريد منه أن يعبده بكله ظاهرا وباطنا من قوى وجوارح ويستعين على ذلك الحد ومتى لم يكن المصلي بهذه المثابة من جمع عالمه على عبادة ربه كان كاذبا في قراءته إذا قال إياك نعبد وإياك نستعين فإن الله ينظر إليه فيراه متلفتا في صلاته أو مشغولا بخاطره في دكانه أو تجارته وهو مع هذا يقول نعبد ويكذب فيقول الله له كذبت في كنايتك بجمعيتك على عبادتي ألم تلتفت ببصرك إلى غير قبلتك ألم تصغ بسمعك إلى حديث الحاضرين ألم تعقل بقلبك ما تحدثوا به فأين صدقك في قولك نعبد بنون الجمع فيحضر العارف هذا كله في خاطره فيستحيي أن يقول في مناجاته في صلاته إياك نعبد لئلا يقال له كذبت فلا بد أن يجتمع من هذه حالته على عبادة ربه حتى يقول له الحق صدقت إذا تلا في جمعيتك علي في عبادتك إياي وطلب معونتي روينا في هذا الباب على ما حدثنا به شيخنا المقري أبو بكر محمد بن خلف بن صاف اللخمي عن بعض المعلمين من الصالحين أن شخصا صبيا صغيرا كان يقرأ عليه القرآن فرآه مصفر اللون فسأله عن حاله فقيل له إنه يقوم الليل بالقرآن كله فقال له يا ولدي أخبرت أنك تقوم الليل بالقرآن كله فقال هو ما قيل لك فقال يا ولدي إذا كان في هذه الليلة فأحضرني في قبلتك واقرأ على القرآن في صلاتك ولا تغفل عني فقال الشاب نعم فلما أصبح قال له هل فعلت ما أمرتك به قال نعم يا أستاذ قال وهل ختمت القرآن البارحة قال لا ما قدرت على أكثر من نصف القرآن قال يا ولدي هذا حسن إذا كان في هذه الليلة فاجعل من شئت من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم أمامك الذين سمعوا القرآن من رسول الله صلى الله عليه وسلم واقرأ عليه واحذر فإنهم سمعوه من رسول الله صلى الله عليه وسلم فلا تزل في تلاوتك فقال إن شاء الله يا أستاذ كذلك افعل فلما أصبح سأله الأستاذ عن ليلته فقال يا أستاذ ما قدرت على أكثر من ربع القرآن فقال يا ولدي أتل هذه الليلة على رسول الله صلى الله عليه وسلم الذي أنزل عليه القرآن واعرف بين يدي من تتلوه فقال نعم فلما أصبح قال يا أستاذ ما قدرت طول ليلتي على أكثر من جزء من القرآن أو ما يقاربه فقال يا ولدي إذا كان هذه الليلة فلتكن تقرأ القرآن بين يدي جبريل الذي نزل به على قلب محمد صلى الله عليه وسلم فاحذر واعرف قدر من تقرأ عليه فلما أصبح قال يا أستاذ ما قدرت على أكثر من كذا وذكر آيات قليلة من القرآن قال يا ولدي إذا كان هذه الليلة تب إلى الله وتأهب واعلم أن المصلي يناجي ربه وإنك واقف بين يديه تتلو عليه كلامه فانظر حظك من القرآن وحظه وتدبر ما تقرأه فليس المراد جمع الحروف ولا تأليفها ولا حكاية الأقوال وإنما المراد بالقراءة التدبير لمعاني ما تتلوه فلا تكن جاهلا فلما أصبح انتظر الأستاذ الشاب فلم يجئ إليه فبعث من يسأل عن شأنه فقيل له إنه أصبح مريضا يعاد فجاء إليه الأستاذ فلما أبصره الشاب بكى وقال يا أستاذ جزاك الله عني خيرا ما عرفت أني كاذب إلا البارحة لما قمت في مصلاي وأحضرت الحق تعالى وأنا بين يديه أتلو عليه كتابه فلما استفتحت الفاتحة ووصلت إلى قوله إياك نعبد نظرت إلى نفسي فلم أرها تصدق في قولها فاستحييت أن أقول بين يديه إياك نعبد وهو يعلم أني أكذب في مقالتي فإني رأيت نفسي لاهية بخواطرها عن عبادته فبقيت أردد القراءة من أول الفاتحة إلى قوله ملك يوم الدين ولا أقدر أن أقول إياك نعبد إنه ما خلصت لي فبقيت أستحيي أن أكذب بين يديه تعالى فيمقتني فما ركعت حتى طلع الفجر وقد رضت كبدي وما أنا إلا راحل إليه على حالة لا أرضاها من نفسي فما انقضت ثالثة حتى مات الشاب فلما دفن أتى الأستاذ إلى قبره فسأله عن حاله فسمع صوت الشاب من قبره وهو يقول له يا أستاذ
(٤٢٥)