وفي هذه الرؤية رأيت من دركات أهل النار من كونها جهنم لا من كونها نارا ما شاء الله أن يطلعني منها ورأيت فيها موضعا يسمى المظلمة نزلت في درجة نحو خمسة أدراج ورأيت مهالكها ثم زج بي في الماء علوا فاخترقته وقد رأيت عجبا وعلمت في أحوال مخاصمتهم حيث يختصمون في الجحيم وأن ذلك الخصام هو نفس عذابهم في تلك الحال وأن عذابهم في جهنم ما هو من جهنم وإنما جهنم دار سكناهم وسجنهم والله يخلق الآلام فيهم متى شاء فعذابهم من الله وهم محل له وخلق الله لجهنم سبعة أبواب لكل باب جزء من العالم ومن العذاب مقسوم وهذه الأبواب السبعة مفتحة وفيها باب ثامن مغلق لا يفتح وهو باب الحجاب عن رؤية الله تعالى وعلى كل باب ملك من الملائكة ملائكة السماوات السبع عرفت أسماءهم هنالك وذهبت عن حفظي إلا إسماعيل فهو بقي على ذكري وأما الكواكب كلها فهي في جهنم مظلمة الأجرام عظيمة الخلق وكذلك الشمس والقمر والطلوع والغروب لهما في جهنم دائما فشمسها شارقة لا مشرقة والتكوينات عن سيرها بحسب ما يليق بتلك الدار من الكائنات وما تغير فيها من الصور في التبديل والانتثار ولهذا قال تعالى النار يعرضون عليها غدوا وعشيا والحالة مستمرة ففي البرزخ يكون العرض وفي الدار الآخرة يكون الدخول فذوات الكواكب فيها صورتها صورة الكسوف عندنا سواء غير أن وزن تلك الحركات في تلك الدار خلاف ميزانها اليوم فإن كسوفها ما ينجلي وهو كسوف في ذاتها لا في أعيننا والهواء فيها فيه تطفيف فيحول بين الأبصار وبين إدراك الأنوار كلها فتبصر الأعين الكواكب المنتثرة غير نيرة الأجرام كما يعلم قطعا إن الشمس هنا في ذاتها نيرة وأن الحجاب القمري هو الذي منع البصر أن يدركها أو يدرك نور القمر أو ما كان مكسوفا ولهذا في زمان كسوف شئ منها في موضع يكون في موضع آخر أكثر من ذلك وفي موضع آخر لا يكون منه شئ فلما اختلفت الأبصار في إدراك ذلك لاختلاف الأماكن علمنا قطعا إن ثم أمرا عارضا عرض في الطريق حال بين البصر وبينها أو بين نورها كالقمر يحول بينك وبين إدراك جرم الشمس وظل الأرض يحول بينك وبين نور القمر لا بينك وبين جرمه مثل ما حال القمر بينك وبين جرم الشمس وذلك بحسب ما يكون منك ويكون منه وهكذا سائر الكواكب ولكن أكثر الناس لا يعلمون كما إن أكثر الناس لا يؤمنون فإن ذلك الكسوف كله على اختلاف أنواعه خشوع من المكسوف عن تجل إلهي حصل له وحد جهنم بعد الفراغ من الحساب ودخول أهل الجنة الجنة من مقعر فلك الكواكب الثابتة إلى أسفل سافلين فهذا كله يزيد في جهنم مما هو الآن ليس مخلوقا فيها ولكن ذلك معد حتى يظهر إلا الأماكن التي قد عينها الله من الأرض فإنها ترجع إلى الجنة يوم القيامة مثل الروضة التي بين منبر رسول الله صلى الله عليه وسلم وبين قبره صلى الله عليه وسلم وكل مكان عينه الشارع وكل نهر فإن ذلك كله بصير إلى الجنة وما بقي فيعود نارا كله وهو من جهنم ولهذا كان يقول عبد الله بن عمر إذا رأى البحر يقول يا بحر متى تعود نارا وقال تعالى وإذا البحار سجرت أي أججت نارا من سجرت التنور إذا أوقدته وكان ابن عمر يكره الوضوء بماء البحر ويقول التيمم أعجب إلي منه ولو كشف الله عن أبصار الخلق اليوم لرأوه يتأجج نارا ولكن الله يظهر ما يشاء ويخفى ما يشاء ليعلم أن الله على كل شئ قدير وأن الله قد أحاط بكل شئ علما وأكثر ما يجري هذا الأهل الورع فيرى الطعام الحرام صاحب الورع المحفوظ خنزيرا أو عذرة والشراب خمرا لا يشك فيما يراه ويراه جليسه قرصة خبز طيبة ويرى الشراب ماء عذبا فيا ليت شعري من هو صاحب الحس الصحيح من صاحب الخيال هل الذي أدرك الحكم الشرعي صورة أو هل الذي أدرك المحسوس في العادة على حاله وهذا مما يقوي مذهب المعتزلة في أن القبيح قبيح لنفسه والحسن حسن لنفسه وأن الإدراك الصحيح إنما هو لمن أدرك الشراب الحرام خمرا فلولا أنه قبيح لنفسه ما صح هذا الكشف لصاحبه ولو كان فعله عين تعلق الخطاب بالحرمة والقبح ما ظهر ذلك الطعام خنزيرا فإن الفعل ما وقع من المكلف فإن الله أظهر له صورته وأنه قبيح حتى لا يقدم على أكله وهذا بعينه يتصور فيمن يدركه طعاما على حاله في العادة ولكن هذا أحق في الشرع فعلم قطعا إن الذي يراه طعاما على عادته قد حيل بينه وبين حقيقة حكم الشرع فيه بالقبح ولو كان الشئ قبيحا بالقبح الوضعي لم يصدق قول الشارع في الإخبار عنه إنه قبيح أو حسن فإنه خبر بالشئ على خلاف ما هو عليه فإن الأحكام
(٢٩٩)