حق المؤمن جانب الابتياع فكان المؤمن ملك حلة الإباحة وحلة الوجوب فخلع عن نفسه حلة الإباحة وليس حلة الوجوب وكلاهما له فسمى خلعه لها بيعا وما سمي لباسه للوجوب شراء فإنها ملكه ورحله ومتاعه والإنسان لا يشتري ما يملكه ولما حجر الله الضلال على خلقه ورجح من رجح منهم الضلال على الهدى اشتروا الضلالة فإنهم لم يكونوا يملكونها بالهدى الذي ملكهم الله إياه فما ربحت تجارتهم وما كانوا مهتدين في ذلك الشراء لأن الله ما شرع لعباده الشراء ثم قال تعالى بعد قوله ولا بيع عن ذكر الله أي لا يلهيهم شئ عن ذكر الله حين سمعوا المؤذن في هذا البيت يدعوا إلى الله وهو حاجب الباب فقال لهم حي على الصلاة أي أقبلوا على مناجاة ربكم فإنه قد تجلى لكم في صدر بيته وهي القبلة فإن الله في قبلة العبد فبادر أهل الله من بيعهم وتجارتهم المعلومة في الدنيا إلى هذا الذكر عند ما سمعوه فأقاموا الصلاة أي أتموا نشأتها حين أنشؤها بحسن الائتمام بإمامهم وحسن الركوع والسجود وما تتضمنه من ذكر الله الذي هو أكبر ما فيها كما أخبر الله تعالى فقال إن الصلاة تنهى عن الفحشاء والمنكر بسبب تكبيرة الإحرام فإنه حرم عليه التصرف في غير الصلاة ما دام في الصلاة فذلك الإحرام نهاه عن الفحشاء والمنكر فانتهى فصح له أجر من عمل بأمر الله وطاعته وأجر من انتهى عن محارم الله في نفس الصلاة وإن كان لم ينو ذلك وانظر ما أشرف الصلاة كيف أعطت هذه المسألة العجيبة وهي أن الإنسان إذا تصرف في واجب فإن له ثواب من تصرف في واجب ويتضمن شغله بذلك الواجب عدم التفرع لما نهي عنه أن يأتيه من الفحشاء والمنكر فيكون له ثواب من نوى أن لا يفعل فحشاء ولا منكرا فإن أكثر الناس تاركون ما لهم هذا النظر لعدم الحضور باستحضار الأولى ولو لم يكن الأمر كذلك لما أعطى فائدة في قوله إن الصلاة تنهى عن الفحشاء والمنكر والصلاة فعل العبد فهو بصلاته ممن ينهى عن الفحشاء والمنكر فيكون له بالصلاة أجر من ينهى عن الفحشاء والمنكر وهو لم يتكلم فله أجر عبادتين أجر الصلاة وهي عبادة وأجر النهي عن الفحشاء وهو عبادة وقليل من أصحابنا من يجعل ذهنه في عباداته إلى أمثال هذه المراقبات في التعريف الإلهي على لسان الشارع في الكتاب والسنة ثم قال ولذكر الله أكبر يعني فيها فهو أكبر من جملة أفعالها فإنها تشتمل على أقوال وأفعال فقال ولذكر الله في الصلاة أكبر أحوال الصلاة وما كل أقوال الصلاة ذكر فإن فيها الدعاء وقد فرق الحق بين الذكر والدعاء فقال من شغله ذكري عن مسألتي وهي الدعاء فما هو الذكر هنا الذكر الخارج عن الصلاة حتى ترجحه على الصلاة إنما هو الذكر الذي في الصلاة فهذا من ربط الصلاة بالمكان والحال ومن أحوال إقامة الصلاة فيمن أمر غيره بالبر ونسي نفسه توبيخ الله من هذه صفته وجعله إياه بمنزلة من لا عقل له فقال أتأمرون الناس بالبر وتنسون أنفسكم وأنتم تتلون الكتاب أفلا تعقلون والبر من جملة أحوال الصلاة فإن رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول أقرت الصلاة بالبر والسكينة ثم أمر من هذه صفته أن يستعين بالصبر والصلاة يعني بالصبر على الصلاة فقدم حبس النفس عليها فإن الله يقول وأمر أهلك بالصلاة واصطبر عليها فأنت يريد الصلاة وأما قوله وأنتم تتلون الكتاب فإنكم تجدون فيه قوله كبر مقتا عند الله أن تقولوا ما لا تفعلون في أثر قوله يا أيها الذين آمنوا لم تقولون ما لا تفعلون وهذه حالة من أمر بالبر غيره ونسي نفسه أفلا تعقلون يقول أما لكم عقول تنظرون بها قبيح ما أنتم عليه ثم ذكر الخشوع للصلاة فقال وإنها لكبيرة إلا على الخاشعين فإن الخشوع لله لا يكون إلا عن تجل إلهي والصلاة مناجاة فلا بد من تجل إن رأيته خاشعا وإن لم يخشع في صلاته فما صلى فإن رسول الله صلى الله عليه وسلم قد جعل التجلي الإلهي سببا لوجود الخشوع في القلب ولا سيما في الصلاة والتجلي لأكثر الناس إما بالحضور وهو لأفراد وإما بالاستحضار الخيالي وهو الغالب في عموم الخواص فإن الله في قبلة المصلي وأما خشوع الأكابر الذين التحقوا بالملأ الأعلى فخشوعهم عن التجلي الحقيقي فهم في صلاتهم دائمون وإن أكلوا وشربوا ونكحوا وأتجروا فأمرهم الله تعالى إذا كانوا في مثل هذه الحال أن يستعينوا بالصلاة والصبر عليها فإن المصلي يناجي ربه فإذا حصل العبد في محل المناجاة مع ربه دائما استلزمه الحياء من الله فلا يتمكن له أن يأمر أحدا ببر وينسى نفسه منه بل يبتدئ بنفسه والبر هو الإحسان والخير ومن جملة ذلك أن يكون محتاجا للقمة يأكلها ويرى غيره محتاجا إليها والحاجة على السواء فيعطي غيره
(٥٤٢)