وقاية فأقام الصوم مقامه في الوقاية وهو ليس كمثله شئ والصوم من العبادات لا مثل له ولا يقال في الصوم ليس كمثله شئ فإن الشئ أمر ثبوتي أو وجودي والصوم ترك فهو معقول عدمي ووصف سلبي فهو لا مثل له لا أنه ليس كمثله شئ فهذا الفرق بين نعت الحق في نفي المثلية وبين وصف الصوم بها ثم إن الشارع نهى الصائم والنهي ترك ونعت سلبي فقال لا يرفث ولا يسخب فما أمره بعمل بل نهاه أن يتصف بعمل ما والصوم ترك فصحت المناسبة بين الصوم وبين ما نهي عنه الصائم ثم أمر أن يقول لمن سابه أو قاتله إني صائم أي تارك لهذا العمل الذي عملته أنت أيها المقاتل والساب في جانبي فنزه نفسه عن أمر ربه عن هذا العمل فهو مخبر أنه تارك أي ليس عنده صفة سب ولا قتال لمن سابه وقاتله ثم قال والذي نفس محمد بيده يقسم صلى الله عليه وسلم لخلوف فم الصائم وهو تغير رائحة فم الصائم التي لا توجد إلا مع التنفس وقد تنفس بهذا الكلام الطيب الذي أمر به وهو قوله إني صائم فهذه الكلمة وكل نفس الصائم أطيب يوم القيامة يوم يقوم الناس لرب العالمين عند الله فجاء بالاسم الجامع المنعوت بالأسماء كلها فجاء باسم لا مثل له إذ لم يتسم أحد بهذا الاسم إلا الله سبحانه فناسب كون الصوم لا مثل له وقوله من ريح المسك فإن ريح المسك أمر وجودي يدركه الشام ويلتذ به السليم المزاج المعتدل فجعل الخلوف عند الله أطيب منه لأن نسبة إدراك الروائح إلى الله لا تشبه إدراك الروائح بالمشام فهو خلوف عندنا وعنده تعالى هذا الخلوف فوق طيب المسك في الرائحة فإنه روح موصوف لا مثل لما وصف به فلا تشبه الرائحة فإن رائحة الصائم عن تنفس ورائحة المسك لا عن تنفس من المسك ولنا واقعة في مثل هذا كنت عند موسى بن محمد القباب بالمنارة بحرم مكة بباب الحزورة وكان يؤذن بها وكان له طعام يتأذى برائحته كل من شمه وسمعت في الخبر النبوي أن الملائكة تتأذى مما يتأذى منه بنو آدم ونهي أن تقرب المساجد برائحة الثوم والبصل والكراث فبت وأنا عازم أن أقول لذلك الرجل أن يزيل ذلك الطعام من المسجد لأجل الملائكة فرأيت الحق تعالى في النوم فقال لي عز وجل لا تقل له عن الطعام فإن رائحته عندنا ما هي مثل ما هي عندكم فلما أصبح جاء على عادته إلينا فأخبرته بما جرى فبكى وسجد لله شكرا ثم قال لي يا سيدي ومع هذا فالأدب مع الشرع أولى فازاله من المسجد رحمه الله ولما كانت الروائح الكريهة الخبيثة تنفر عنها الأمزجة الطبيعية السليمة من إنسان وملك لما يحسونه من التأذي لعدم المناسبة فإن وجه الحق في الروائح الخبيثة لا يدركه إلا الله خاصة ومن فيه مزاج القبول له من الحيوان أو الإنسان الذي له مزاج ذلك الحيوان لا ملك ولهذا قال عند الله فإن الصائم أيضا من كونه إنسانا سليم المزاج يكره خلوف الصوم من نفسه ومن غيره وهل يتحقق أحد من المخلوقين السالمين المزاج بربه وقتا ما أو في مشهد ما فيدرك الروائح الخبيثة طيبة على الإطلاق ما سمعنا بهذا وقولي على الإطلاق من أجل أن بعض الأمزجة يتأذى بريح المسك والورد ولا سيما المحرور المزاج وما يتأذى منه فليس بطيب عند صاحب ذلك المزاج فلهذا قلنا على الإطلاق إذا الغالب على الأمزجة طيب المسك والورد وأمثاله والمتأذي من هذه الروائح الطيبة مزاج غريب أي غير معتاد ولا أدري هل أعطى الله أحدا إدراك تساوى الروائح بحيث أن لا يكون عنده خبث رائحة أم لا هذا ما ذقناه من أنفسنا ولا نقل إلينا إن أحدا أدرك ذلك بل المنقول عن الكمل من الناس وعن الملائكة التأذي بهذه الروائح الخبيثة وما انفرد بإدراك ذلك طيبا إلا الحق هذا هو المنقول ولا أدري أيضا شأن الحيوان من غير الإنسان في ذلك ما هو لأني ما أقامني الحق في صورة حيوان غير إنسان كما أقامني في أوقات في صور ملائكته والله أعلم ثم إن الشرع قد نعت الصوم من طريق المعنى بالكمال الذي لا كمال فوقه حين أفرد له الحق بابا خاصا وسماه باسم خاص يطلب الكمال يقال له باب الريان منه يدخل الصائمون والري درجة الكمال في الشرب فإنه لا يقبل بعد الري الشارب شربا أصلا ومهما قبل فما ارتوى أرضا كان أو غير أرض من أرضين الحيوانات خرج مسلم من حديث سهل بن سعد قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم إن في الجنة بابا يقال له الريان يدخل منه الصائمون يوم القيامة لا يدخل معهم أحد غيرهم يقال أين الصائمون فيدخلون منه فإذا دخل آخرهم أغلق فلا يدخل منه أحد ولم يقل ذلك في شئ من منهي العبادات ولا مأمورها إلا في الصوم فبين بالريان أنهم حازوا صفة كمال في العمل إذ قد اتصفوا بما لا مثل له كما تقدم
(٦٠٣)